القدس ضدّ الكولونيالي والصهيوني تمثلات الانتماء في سيرة إدوارد سعيد خارج المكان
Publication Type
Conference Paper
Authors
Fulltext
Download

 

القدس ضدّ الكولونيالي والصهيوني

تمثلات الانتماء في سيرة إدوارد سعيد خارج المكان

        هذه السيرة وليدة الارتياب ، أولا : ارتياب داخلي من خوف إدوارد سعيد من ذوبان نفسي خارج مكانه لا سيما بعد ملازمة مرض اللوكيميا له ، فهو بحاجة ماسة إلى وطن داخلي يؤكد انتماءه وذاته، وقد كان تأليف الكتاب عونا حاسما لإدوارد في مقاومة المرض "كانت مواعيدي مع هذه المخطوطة تمدني بتماسك وانضباط ممتعين ومتطلبين معا"[1]  كما أن العيش خارج الوطن الأم جعله يبحث عن فكرة الوطن، فلا شيء يملأ هذا الفراغ  سواها، فهي وسيلة تعويضية عن المحروم، وقضية مركزية يدافع الإنسان عنها –لا سيما المفكر- لتعطيه شرعية الوجود وشرعية الحق(الإنسان القضية) فكانت القدس .

"هذا الكتاب هو سجل لعالم مفقود أو منسي . منذ عدة سنوات تلقيت تشخيصا طبيا بدا مبرما ، فشعرت بأهمية أن أخلف سيرة ذاتية عن حياتي في العالم العربي ، حيث ولدت وأمضيت سنوات دراستي التكوينية"[2]    

وثانيا : ارتياب خارجي فلقد جابه إدوارد سعيد المؤسسة الصهيونية في أميركا وحارب عن جيش جرار الدعاية الصهيونية التي تؤكد حق امتلاك فلسطين عامة والقدس خاصة ، فجاء هذا الكتاب ليؤكد الوجود الفلسطيني التاريخي فيها ، الوجود الذي يبغي الصهاينة طمسه .

       خارج المكان سيرة جاءت تؤكد الوجود الفلسطيني في القدس ، وتؤكد حقهم التاريخي المهدد فيها ، وهذا ما دفع الصهاينة إلى تجنيد أحد مروجيها في أمريكيا للخروج على الجماهير وادعاء أن إدوارد سعيد وعائلته لم يعيشوا في القدس ولا علاقة لهم بها ، إضافة إلى وصف سعيد ببروفيسور الإرهاب من على المنابر الإعلامية ، ومن هنا نؤكد أن سيرة إدوارد سعيد هي وليدة لحظة الخوف والقلق والارتياب من الذوبان والتهميش والنسيان ، ألم ينس في هذا العالم أقوام ؟

       إدوارد سعيد وهو يسترجع ذكريات القدس كان يسترجع نفسه المهددة بالموت والموت الجماعي للقدس وفلسطين، فمع كل حجر وبيت وحارة من حارات القدس ذكرها سعيد كان يبني في داخله قلعة محصنة ، لقد أدرك سعيد أن القلاع حين تسقط تسقط من الداخل من أهلها المنهزمة نفوسهم ، لذا أصر على بناء قلعته الداخلية حجرا حجرا ومع كل بناء نفسي أتى عليه سعيد كنا نشاهد القدس العتيقة ونتصور حاراتها وأزقتها  ، فالقدس التي رسمها سعيد قدس قوية جميلة ، وبرأيي الشخصي كانت قدس سعيد مرآة حقيقة عكست نفسيته وعكست بئره الأولى في أسمى تجلياتها ، ونجح في تقديمها نجاحا عجزت عنه المؤسسة الإعلامية الرسمية الفلسطينية .

     سعيد يدرك أهمية التاريخ وأهمية دقائقه ؛ لذا أراد من سيرته أن تكون ديوانا دون فيه تفاصيل دقيقة عن المكان والزمان الفلسطينيين ، ولما حدث من تغيرات أجراها الصهيوني على الأرض ؛ لأن الإمساك بلحظتين تاريخيتين مفارقتين أمر مهم جدا لقارئ السيرة عامة ولقارئها الأجنبي خاصة .

" يقع منزلنا العائلي في الطالبية ، وهو حي من القدس الغربية قليل السكان بناه وسكن فيه حصرا فلسطينيون مسيحيون من أمثالنا والمنزل كناية عن فيلا حجرية مهيبة من طبقتين ، كثيرة الغرف ، تحدق بها حديقة جميلة نلعب فيها أنا وابنا عمي الأصغران وشقيقاتي . ويصعب الحديث عن جيرة فعلية ، مع أننا كنا نعرف جميع ساكني الحي الذي لم تكن معالمه قد تبلورت بعد "[3]

سعيد يعلن موقفه الحاسم والصريح من الاحتلال الإسرائيلي وهو يدرك أن أمريكا أرض محتلة صهيونيا

" ولا يزال يصعب علي أن أتقبل حقيقة أن أحياء المدينة تلك حيث ولدت وعشت وشعرت بأني بين أهلي مهاجرون بولونيون وألمان وأمريكيون غزو المدينة وحولوها رمزا أوحد لسيادتهم حيث لا مكان للحياة الفلسطينية التي انحسرت إلى المدينة الشرقية التي أكاد لا أعرفها . فلقد أضحت القدس الغربية الآن يهودية بالكامل ، وطرد منها سكانها السابقون نهائيا في أواسط العام 1948"[4] .

 

  كما ويؤكد طابع القدس الحضاري ، فصاحب الاستشراق والثقافة والإمبريالية خير من يعرف المقولات المقولبة عن المشرق والعالم الثالث التي أطلقتها المركزية الغربية ضد الهامش من مثل البرابرة واللاعقلانيين والمهمشين والعاطفيين أو المقولة الدعائية الصهيونية أرض بلا شعب أو الرحل أو المقولات الدينية التي تتهم سكان فلسطين بالسرسينز    sarosins

" وكان الانطباع العام عن القدس أنها مدينة يغلب عليها الطابع الإنجليزي إلى حد كبير نظيفة المساكن منظمة السير يكثر أهلها من شرب الشاي وسكانها عرب من ذوي الثقافة الإنجليزية "[5]

       وإذ يأتي سعيد في المقابل على ذكر اليهود فإنه يشير إلى وجودهم المتدني فيها فسكان المدينة العرب متجانسون ؛ لأنهم بالدرجة الأولى فلسطينيون ، أما اليهود فهم مجرد لمحات وجيزة من المتدينين ببذلاتهم وقبعاتهم ومعاطفهم المغمسة كلها بالأسود .[6]

        سعيد الذي يأتي بمشاهد قبل الفلسطينية لينسف مع سبق الإصرار والترصد مشهد بعد اليهودي، وسعيد العلماني المفكر ينسف بطريقة ما التبريرات الدينية التوراتية لاحتلال القدس عن طريق رسم المشاهد ، ويؤكد على ربط الاحتلال الإسرائيلي بالاستعمار والاستيطان ، فمشاهد قبل مشاهد طبيعية تنمو على أرضها نموا منسجما مع المكان ، ومشهد بعد مشهد استيطاني إحلالي غصبي مصطنع .

"أمام المنزل بورة مستطيلة خالية ، كنت ألعب فيها أو أركب دراجتي . ولم يكن لنا جيران مباشرون ، مع أنك تلقى على مسافة خمسمئة ذراع تقريبا صفا من الفيلات المشابهة يسكنها أصدقاء أبناء عمي . اليوم ، أضحت البورة حديقة عامة ، والمنطقة المجاورة للبيت حيا فخما يسكنه يهود " [7]

إدوارد لا يترك ناقوسا بين الحين والآخر ضد الصهيونية الاستيطانية إلا ويعلقه ، فمثلا وهو يتحدث عن خليل بيدس الذي تلقى تعليمه في مدرسة الجالية الروسية (المسكوبية) يذكر القارئ وينخز الوعي الأمريكي والوعي الصهيوني المتناسي بأن المسكوبية اليوم مركز احتجاز واستجواب إسرائيلي للفلسطينيين كما يذكّر في صفحات سيرته بالنكبة وبأحداث دير ياسين وبالفظائع الصهيونية ، وفي المقابل  وصف أقاربه المقدسيين بأنهم فقدوا فلسطين بصمت ولوعة تبعث على الشفقة ، ووصف ابن خاله صاحب الجاه والسطوه في القدس الذي ظهر في القاهرة بعيد 48 بأنه قد شاخ وازداد هزالا ؛ لأن الكل أضحى خارج المكان أو خارج الكرامة بمعنى آخر وتعلم سعيد بعدها  أن تكون حياته مليئة بتنافر الأصوات وأن يؤثر ألّا يكون سويا تماما وأن يظل في غير مكانه .  

سعيد المحارب الثقافي ربط طفولته بالقدس وجعلها سويداء قلبه ، فالقدس ذلك المكان الناعس والحلمي وهو ملعب الطفولة " كنت أرى إقامتي المقدسية سارة ، لكن يعذبني فيها أنها طليقة ومؤقتة وزائلة وقد تبين لاحقا أنها فعلا كذلك "[8]

      القدس المكان الطفولي الدافئ يتماس مع أي قارئ ، وسعيد يعرف أن الطفل هو الذي يقرأ فينا ويعرف أن الطفل يحب الحضن الأول الذي خرج منه ، وأن الإنسان كلما ابتعد في الزمن يعود ليقترب في حلقة دائرية مع الطفولة ومن هنا كان ربطه ، وأنا شخصيا أرى أن البرزخ الذي يفصل الكهولة عن الطفولة برزخ شفاف جدا ، فالطفل أحيانا يقول أقوال الكهل الحكيم والكهل يطلب مطلب الأطفال . ومن هنا أقول : إن أكثر فتره تماهى فيها إدوارد سعيد مع القدس هي الفترة الأخيرة أو فترة ما بعد اللوكيميا .

      إدوارد سعيد وليد دروبه ومنافيه القدس مصر بريطانيا أمريكا، لكنه قرر أن يختار وهو في المنفى حدائق البيت الأول عن طريق إسقاط كل الدروب ، وإبقاء درب واحد هو القدس على الرغم مما فيه من آلام وعلى الرغم من سعيد المثقف الذي تربى تربية كولونيالية ذوقا وعلما ولغة ، فالغريب في إدوارد سعيد كما يذكر في المقدمة، أنه عربي أدت الثقافة الغربية-ويا لسخرية الأمر- إلى توكيد أصوله العربية ؛ لذا جاءت سيرته خارج المكان لتؤكد أن سعيدا المنفيّ عاش في غير مكانه ، بل إنه رفض الاسم الأجنبي إدوارد(اسم أمير بلاد الغال وارث العرش البريطاني) وعده نيرا وضع على عاتقه خمسين سنة، وهاجم عائلته _الأب حصريا_ التي حاولت مثل جميع العائلات اختراع آبائها وأبنائها ، ومنح كل منهم قصة وشخصية ومصيرا بل منحه لغتة مغايرة .

فالأب البطريركي الذي تحكم في مصيرهم وعمل على تغييره قهرا بدا له قسيسا معمدانيا عديم الجاذبية وبطريركا قاسيا وزوجا قامعا كان يكره فلسطين ويعد نفسه أمريكيا ، أما سعيد فكانت فلسطين مكانا يسلم به تسليما وهو الوطن الذي ينتمي إليه ويعيش فيه أقرباء وأصدقاء بطمأنينه لا تحتاج إلى تفكير[9].

إدوارد سعيد الذي كتب بالإنكليزية وكان يتقنها أكثر من أبنائها ينحاز في هذه السيرة إلى مناخ الأمومة الغامر الذي كان يحن إليه في أوقاته العصيبة ووجده في العربية ، فعبارات مثل "تسلم لي" و"روحها للماما" عبارات أمومية لم يكن يوما بحاجة إلى ترجمتها وفقه معناها ، فالقدس خاصة والمشرق عامة في مواجهة الغرب هي ربط أمومي عند سعيد ، ويحس القارئ بدرجة عالية من الصدق والشفافية في العلاقة بين الأم وابنها والمشرق على نقيض من الأب ، فقد كانت الأم من خلال الوصف تكره أمريكيا، ورفضت الهجرة إليها والحصول على جواز سفر أمريكي، وكانت تقدس المشرق العربي، وكم آلمها في لحظات نزاعها أن تموت في أمريكيا، لقد ورث سعيد عن أمه السرطان والوفاء للمشرق، وبرحيله فقد الفلسطينيون والعرب أكبر مدافع عن قضاياهم في المحافل الدولية ، واقتضى وفاؤه الوصية بأن يؤخذ رماد جثته ويلقى في المشرق العربي في تواصل لا نهائي مع الأرض والوطن والمكان معانقا أرواح الأجداد والأحفاد بفلسفة تذكر بفلسفة الهندي الأحمر الذي يعتقد أن أرواح الناس البيض تسافر بعد موتها بين النجوم، أما روح الهندي الأحمر فإنها تبقى في الأرض الأم وتعود إليها .

حين يفقد الإنسان المكان يبحث عن مجازاته وظلاله ليسكن فيها وإدوارد سعيد الذي فقد حقائق كثيرة لم يتخل عن مجازاته وتمسك بها بالعروة الوثقى ؛ لأنه يعرف أن الحقائق يعاد تصنيعها في أرض المجازات، وكانت القدس بحاراتها وأزقتها ومرموزها إحدى مجازات سعيد الكبرى .

 

      

 

[1] -  إدوارد سعيد : خارج المكان، ت فواز طرابلسي- دار الآداب –بيروت،ط1 ،2000،ص19

[2] -المصدر نفسه ،ص19

[3] ص46 قد احتلها

[4] ص149

[5] -ص150

[6] ينظر ص150

[7] ص46

[8] -ص47

[9] ص45

Conference
Conference Title
مؤتمر الآدب الفلسطيني الدولي التاسع
Conference Country
Palestine
Conference Date
April 19, 2015 - April 22, 2015
Conference Sponsor
جامعة بيت لحم
Additional Info
Conference Website