تقديم
على الرغم من عِظم حجم التضحيات الفلسطينية في قطاع غزة والضفة الغربية نتيجة معركة طوفان الأقصى، إلا أنه من الضرورة بمكان أن يعيد الفلسطينيون فتح باب النقاش وبناء الاستراتيجيات حول مستقبل الشكل السياسي والاقتصادي للدولة الفلسطينية، خاصة في ظل وجود لاعبين إقليميين ودوليين يعدّون السيناريوهات المستقبلية لشكل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ما يجعل من هذا النقاش ضرورة وطنية مبنية على قاعدة أهمية الجهوزية السياساتية لمواجهة شكل الصراع القادم.
ستقدم هذه الورقة إضاءات سريعة على التحولات التاريخية في أنماط التفكير الاقتصادي الفلسطيني، وكيف أثرت تلك التحولات على شكل ومستقبل القضية الفلسطينية.
مصادر التمويل الخارجي وتاريخ الصراع
منذ بداية الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة، تمكنت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة من تشكيل صورة التفكير الجمعي الفلسطيني حول شكل ومقومات اقتصاد الضفة الغربية وقطاع غزة ضمن مراحله التاريخية الثلاث التي اعتمدت بشكل مباشر على مصادر التمويل الخارجي وربطها بالمتطلبات الأمنية والاستيطانية، وهي على النحو التالي:
سجلت الانتفاضة الأولى نهاية تلك المرحلة، ما دفع الجانب الإسرائيلي (الداخل الجديد إلى نادي الليبراليون الجدد) للبحث عن صيغة سياسية في ظاهرها وأمنية بكل تفاصيلها من أجل ضمان الاستقرار الاقتصادي لأسواقه والاستفادة من كافة المقومات البشرية والطبيعية والشرائية للفلسطينيين في الضفة والقطاع، فكانت اتفاقية أوسلو.
من الضرورة بمكان الانتباه هنا إلى حالة اقتصاد الأنفاق في قطاع غزة والذي حرر الاقتصاد الغزي (بشكل نسبي) من قيود بروتوكول باريس، خاصة مع منع العمالة الغزية من العمل داخل الخط الأخضر، الأمر الذي شكّل ظاهرة وتجربة تستحق الدراسة والبناء عليها حول النتائج الاقتصادية والوطنية المترتبة على تقليل قنوات التبعية مع الاقتصاد الإسرائيلي.
البرجوازيون الجدد وتقديم الحلول الأمنية على السياسية
خلال الفترة ما بعد أوسلو، نجح الثالوث الصهيوني والنيوليبرالي والإمبريالي الأمريكي في تحويل مسار القضية الفلسطينية من حتمية مسار الحل السياسي إلى قضية حلول إنسانية أمنية تنموية فردية وفق مفاهيم النظام الاقتصادي العالمي الجديد. وذلك على الرغم من بديهية المعرفة بحتمية متلازمة ثنائية الحل السياسي مع الاحتياجات التنموية المستدامة. فتم الاكتفاء بسياسات بناء المؤسسات وتمكين البلديات والحكم الرشيد، والخروج بنماذج وهمية يتم تسويقها عالمياً على أنها مكتسبات فلسطينية نيوليبرالية متسقة مع حالة الذوبان الكامل في اقتصاد المحتل، تضمن للجانب الآخر قدرته على التوسع الاستيطاني وضمان أمنه الداخلي. فعملية التحوّل النيوليبرالي الفلسطيني لم تراعي خصوصية الحالة الفلسطينية، وجعلت عملية التحول تتبع فلسفة التنمية تحت الاحتلال، وباتت القوى الإقليمية والدولية تلقي باللائمة على الأنظمة الإدارية والاقتصادية والمالية الفلسطينية في أي فشل تنموي أو سياسي متجاهلة انعكاسات غياب الحل السياسي مع الطرف الآخر.
كما نجحت تلك المنظومات في تفكيك قيم الوعي الجمعي الفلسطيني المبني على أساس متين من المقاومة المجتمعية ووحدة المصير. كان ذلك من خلال تفكيك تلك القيم نحو سلوكيات وعلاقات اجتماعية تعلي فلسفة الفردية والنزعة الاستهلاكية والمصالح الشخصية والتكيّف مع واقع الاحتلال على حساب وحدة القضايا المجتمعية والوطنية.
النيوليبرالية كانت الأداة الصهيوأمريكية من أجل خلق طبقة فلسطينية برجوازية جديدة متحكمة بمراكز صنع القرار، تقف أمام أي محاولات ساعية لسحب المكاسب المالية والاجتماعية منها، وتسعى جاهدة للحفاظ على مكاسب حالة اللاسلم واللاحرب والتكيف معها. وقد تمكنت أذرع النيوليبرالية الفلسطينية (البرجوازيون الجدد) من ربط المطالب الأمنية الإسرائيلية بالنمو الاقتصادي الفلسطيني، الأمر الذي عزز دور التنسيق الأمني من جهة، وربط مصادر التمويل الخارجي المتحكَّم بها إسرائيلياً بمدى التزام تلك الطبقة في ضمان المطالب الأمنية الإسرائيلية، حتى وإن كان ذلك على حساب تهويد الأرض والفصل الجغرافي للمدن والبلدات الفلسطينية، بحيث تم إعادة إنتاج الاحتلال والهيمنة من شكلها الاستعماري المباشر إلى تبعية اقتصادية مؤطرة باتفاقيات وتفاهمات توافقية معترف بها فلسطينيا وعربيا ودوليا.
من اللافت هنا ادعاء رعاة العملية السلمية ربط مصادر التمويل المالي بمدى التزام مؤسسات السلطة الفلسطينية بمبادئ وقيم الحرية والعدالة والمساواة والمساءلة (مع إقرارنا بأهميتها) في الوقت الذي لا تتعارض فيه حالة غياب الانتخابات والتمثيل النيابي والديمقراطي عن كافة مفاصل الحياة السياسية الفلسطينية مع مصادر التمويل تلك، بل كلما تضاءل الدور الأمني الفلسطيني على الأرض، كلما تم تجفيف مصادر التمويل بذرائع عدم الالتزام بقيم ومبادئ العالم الحر.
حتمية التحوّل
من البديهي استنتاج أن النموذج الاقتصادي النيوليبرالي المرتكز على قواعد الحرية الاقتصادية والسياسية لن يستجيب لمتطلبات التنمية المستدامة لدولة تحت الاحتلال أو لدولة فلسطينية منزوعة السيادة، ذلك أن قوالب النيوليبرالية الاقتصادية ستبقى مشوهة إذا ما فرّغت من مقوماتها وعُزلت عن مكمّلاتها السياسية، والحديث هنا عن متطلبات الحرية السياسية (الديمقراطية والاستقلال) وحرية الإنتاج والسيادة على الموارد والمعابر واستقلال القرار المالي والنقدي. كل ذلك يصطدم فلسطينياَ مع مركزية القرار وغياب التمثيل الديمقراطي والاحتلا الإسرائيلي الجغرافي والتجاري والمالي، إضافة إلى التشوهات الهيكلية الموروثة التي أفضت إلى ضعف قواعد الإنتاج.
هذا إضافة إلى تفريغ النموذج النيوليبرالي الفلسطيني من متطلبات العدالة الاجتماعية والرفاه الاجتماعي والأمن الاقتصادي والاجتماعي وتعزيز قواعد الإنتاج، والاكتفاء بمؤشرات النمو الاقتصادي المرتبط بأمن إسرائيل، كلها عوامل تجعل من النظام الاقتصادي الفلسطيني مجرد نظام وظيفي مرحلي مشوّه أفقد المسار السياسي زخمه وحرمه من الكثير من أوراق الضغط، وجعله رهينة للإملاءات الإسرائيلية والدولية.
إن فشل طرح حل الدولتين واستحالته ضمن الواقع الاستيطاني الإسرائيلي يجعل طرح حلول بديلة (حل الدولة الواحدة ثنائية القومية، حل الدولة الفلسطينية منقوصة السيادة، حل الكنفدرالية مع المملكة الأردنية الهاشمية، حل التمسك بحل الدولتين وفق رؤى جديدة) حاضراً بقوة، الأمر الذي يتطلب وضع استراتيجية اقتصادية فلسطينية تضمن جهوزية عالية من أجل تحقيق أعلى مكاسب ممكنة في حال تم التوجه لأي من تلك الطروحات. والحديث هنا حول شكل النظام الاقتصادي الفلسطيني الجديد الذي يجب تبنيه خلال المرحلة الانتقالية القادمة من أجل ضمان سهولة التحول وتحقيق تلك المكاسب.
ما بعد الطوفان
أعادت معركة طوفان الأقصى القضية الفلسطينية إلى واجهة الاهتمام العالمي شعبياً ورسمياً، وبدأت القوى المؤثرة حول العالم بإعداد السيناريوهات الاقتصادية والسياسية للضفة الغربية وقطاع غزة ضمن رؤى لا تختلف كثيراً عن تلك التي كانت قد طُرحت خلال مفاوضات أوسلو، فأي تغييرات اقتصادية ستفرض علينا ستكون مقابل الاستمرار بخلق حلول اقتصادية وأمنية مؤقتة تمكن الجانب الإسرائيلي من الاستمرار في تحقيق مكاسبها السياسية الاستيطانية على الأرض، مع حديث مستفيض عن الحقوق الإغاثية والإنسانية والتنموية للشعب الفلسطيني دون الحديث عن حقوقه السياسية. فكل ما رشح حتى اللحظة مجرد تأكيد على ضرورة إعادة إحياء حل الدولتين غير القابل للتحقيق دون أي إشارة لشكل الدولة الفلسطينية أو أي تأكيد على حق الفلسطينيين بالسيادة الكاملة على الأرض وتقرير المصير.
ومن المعيب في هذا الصدد أن تخلو مراكز صنع القرار الفلسطيني في الضفة الغربية من أي استراتيجية أو تصور مستقبلي لشكل وأدوات إدارة الصراع، والمطلوب هنا وبشكل عاجل إعادة إحياء دور منظمة التحرير الفلسطينية وإعادة هيكلتها على أسس التمثيل الكامل لكافة الفعاليات الوطنية والإسلامية بما يضمن وجود جسم تمثيلي تُنقل له كافة صلاحيات إدارة الملفات الوطنية والسياسية والاقتصادية مستفيداً من زخم حالة كسر الجمود التي خلقتها غزة وقنوات المقاومة في الضفة. مع ضرورة تبني ميثاق وطني جامع يعيد صياغة مفهوم الثوابت الفلسطينية وفق إفرازات 30 عاماً من أوسلو بكافة إرهاصاتها السلمية واللاسلمية.
وفي الشأن الاقتصادي، لا بد للإجماع الفلسطيني من البدء بإعادة تقييم النظام الاقتصادي القائم، ووضع تصور عاجل لشكل النظام الجديد الذي يجب أن ينسجم مع شكل وتصور أدوات الصراع القادمة، وشكل مشروع التحرر القادم، مع ضرورة تعريف أولويات التنمية الاقتصادية ووضعها في إطارها الوطني الجمعي الذي يجب أن يتوافق مع قيم التحرر والإنتاج والتشاركية والحماية الاجتماعية دون الخروج من عباءة اقتصاد السوق كإطار تنظيمي شامل. وأعتقد أن أي إجماع اقتصادي فلسطيني قادم لا بد أن يأخذ بالاعتبار القضايا التالية:
أولاً: أن شكل النظام الاقتصادي القادم لا بد وأن تكون له تداعيات وأثمان اقتصادية صعبة على المجتمع الفلسطيني، الأمر الذي يجب مواجهته بإحلال الفكر الجمعي المجتمعي التضامني كبديل عن فكر الحلول الفردية والمفاهيم الاستهلاكية التي أفرزتها النخب المالية والسياسية خلال المرحلة السابقة. فمفهوم التحرر الفلسطيني ضمن التفكير الجمعي الذي أفرزته أوسلو يرتكز غالباً على فكرة ترك قضية التحرر لقوى المقاومة أو لقنوات التفاوض الرسمي، مع النأي بالنفس شعبياً عن أي استعداد لتحمل تكلفة فاتورة التحرر التي حتماً سيصاحبها تكاليف اقتصادية، وبالتالي تراجع فكرة المقاومة الشعبية والعمل الشعبي المؤثر.
ثانياً: أن ينبذ النظام الاقتصادي القادم فكر الاعتماد المفرط على مصادر التمويل الخارجي الناتج عن الاعتماد الكبير على العمالة الفلسطينية داخل الخط الأخضر وعلى المساعدات وعلى تمويل عجز الموازنة بعجز أكبر في الميزان التجاري تعظيماً لبند المقاصة، والاستعاضة عن ذلك ما أمكن بتعزيز قواعد الإنتاج وفق استراتيجيات إحلال الواردات، والتركيز على الروابط الأمامية والخلفية لقطاعي الصناعة والزراعة بما يحقق أكبر استفادة من مدخلات الإنتاج الوطنية، وبناء حواضن تقنية وبشرية لأنشطة تكنولوجيا المعلومات، وزيادة حجم الاستثمار للقطاعين العام والخاص في مجالات الطاقة البديلة.
ثالثاً: أن يضمن أي اتفاق اقتصادي قادم تمثيلاً كاملاً للفلسطينيين على المعابر وسيادة على إحدى المعابر البرية وانفكاكاً كاملاً عن قيود الغلاف الجمركي الموحد.
رابعاً: الإقرار بفشل وصفة النيوليبرالية والبدء بتبني سياسات اقتصادية تشاركية وتضامنية ضمن إطار ومفاهيم نظام السوق الاجتماعي، الذي يضمن قدرة أكبر على تحقيق مفاهيم اقتصاد الصمود والبناء التنموي من القاعدة إلى القمة، ويعزز من قيم الاقتصاد التضامني، ويراكم رأس المال الاجتماعي والبشري على قاعدة من العدالة والمشاركة الشعبية في عمليات اتخاذ القرار.
خامساً: ضرورة تبني وتعريف مفاهيم المقاومة الاقتصادية من قبل الإجماع الفلسطيني والعمل على توزيع الأدوار وفق برنامج حياة اقتصادية يعلي قيم المقاطعة والتقشف والتضامن الاجتماعي وتوطين الإنتاج.