الأسطورة والمجاز
نوع المنشور
ورقة مؤتمر
المؤلفون
النص الكامل
تحميل

 

 

 

  هذا البحث بحث في فلسفة أصول الأشياء للوصول إلي أعماق النفس البشرية,وعوده إلى البدايات للوقوف مع المشترك الإنساني ,والتأكيد على وحدة النسق الفكري الذي قامت عليه الثقافة البشرية.

 

  علينا دائما الا ننسى الأصل كما يقول تايلر,وعلينا ان نتبع جذوره كما فعل فريزر لأنه يمثل الذاكرة الجمعية الانسانيه المخترنه في لا شعورنا على اختلاف الازمنه والامكنه واللغات,ولأنه يمثل صوت الأجداد الآتي من الأعماق ,والذي نلتفت إليه باشتياق ,ونحن إلى استرجاع سره الأول على الرغم من غموضه وخفوته وتشظيه في دروب الزمن السحيق التي سدت بجبال من القرون والأزمان.

 

   مهما بلغ الإنسان من تحضر فما زال سلفه البدائي يكمن في أعماق نفسه ,كما يقول يونج ،وفي الذهن والنير ثمة مناطق مظلمة ,وفي الإنسان الجديد تبقى آثار الإنسان القديم كما يقول باشيلار,ولقد محا تايلر الاختلاف بين عقل البدائي وعقل المتحضر ,"ورأى ان البدائي يتبع سلوكا مماثلا لأي فيلسوف حق ,كما انه يفكر مثله ,فهو يجمع ماده تجربته الحسيه ,ويحاول ان ينظمها تنظيما نسقيا متماسكا"

 

  يتخذ البحث من المجاز باعتباره موضوعا انسانيا مثالاً ,ومن اولى مراحل الفكر الانساني (الاسطوره) مجالا,وبذا يتجاوز مقولات التراثيين ومقارباتهم المدرسيه التي حصلته في نطاق الحقائق اللغويه والعرفيه والشرعيه,وجعلت مداره في نطاق الكلمه المفرده ,وحدود المقام,وشرط القرينه,وحولته الى معادلات رياضيه ومنطقيه قطعيه,افقدته نسبيته ,وابعدته عن خصوصية ذهن مبدعه وروحه ,وسلبت منه قوته وفاعليته التي تصل الي درجة السحر.

ينطلق البحث بالمجاز الي رحاب الانسانيه ويعود به الي مبدعه الحقيقي,الانسان البدائي باعتباره الاداه خلافه التي غرسها الله عز وجل في المخلوق,والالية الذهنيه التي بنا الانسان من خلالها تصوراته لهوايات الاشياء المبنيه على تجربته الحسيه والثقافيه.

 

   يعود باللفظه المفرده باعتبارها إحاله الى نسق ثقافي وعقائدي وديني ,ويضعها في اطار الحقائق المجازيه الكبرى التي تقسم الناس الى ملل ونحل وثقافات ويعود بحدود المقام وحدود الجمله التي تنطوي على علاقه اسناديه مجازيه الي رحاب سياق النص وسياق الخطاب والى اثر الحضاره والثقافه والتاريخ والمجتمع في انتاج معنى المجاز ,وينفي علاقته الضديه مع الحقيقه التي ظلت سائده في التفكير البلاغي القديم لأرتباطه بالخيال ويعيد النظر فيها من خلال مساوتها بينهما ,اذ في المجاز تكمن الحقيقه,وكم كان نتشه حاذقا حين عرف الحقيقه بانها "حشد مضطرب من الاستعارات والمجازات المرسله والتشبيهات بالانسان " (الديري صفحه 55) فنحن حين نفكر في الاشياء من حولنا لا نفكر فيها تفكيرا مجردا، وانما نجسمه ونجسده من خلال التشبيهات والاستعارات والكنايات والامثال والقصص ,كما اننا لا نرى الشيء الا من خلال نسبته الى شيء آخر وتشبيهه به ,فنصل من الشاهد الى الغائب من الظاهر الى الباطن, ومن المكشوف الى المستور ,ومن المشهور الى الشاذ, وبهذه المجازات نستبصر فنبصر,ونتوقع فنقرر, ونفهم فنفسر,ونقنع فنقنع.

 

   بهذه لا يغدو المجاز اتساعا في اللغه , وانما هو اتساع في عقل الانسان ,ورؤيته ووجوده ,انه موضوع انساني بحت,يتجاوز به الانسان التجربه الحسيه الي التجربه المفهوميه ,ينتمي الى عالمه سلوكا وتصورا وتوظيفا,ويؤدي دورا خطيرا في حياته وثقافته ومجتمعه ومما يؤكد اهميته للانسان اهتمام جميع العلوم الانسانيه بالكيفيه التي يرى من خلالها الانسان العالم والاخرين عبر لغته ,وما يترتب على ذلك من قيم واحكام وانظمه وانساق .

   والموقف الميثولوجي هو الاساس في نشأة المجاز في اللغه والاسطوره مع السواء,وهما نتاج هذا التصور الذي يجعل العالم الارضي منصاعا للعالم السماوي ,وليسا نتاج التصور الواقعي الناتج عن التماس مع المحسوسات والاشياء الماديه .ولو ان الانسان بدأ بالوقع بعيدا عن التصور الميثولوجي- وهذا مستحيل – لكانت اللغه على غير ما هي عليه الان , ولخلت من المجاز ,ولكنا نحن الان نصنع المجاز ولم نرثه عن الاقدمين, وما دام الموقف الميثولوجي هو الذي كان سائدا ,فمن البدهي ان تبدأ اللغة بالمجاز لا الحقيقه ما دامت اللغة في اصل الوضع لا تنفصل عن اعتقاد الانسان في الاشياء , وهو اعتقاد اسطوري الغلبة فيه للجاز لا للحقيقه , ومن ثم كان المجاز اسبق من الحقيقه , والصفه الاسطوريه للتراكيب اللغويه والمفردات اللفظيه من المسلمات التي يعول عليها العلم الحديث في اصل اللغه. 

 

الحقيقه نابعه من سلالة مجازيه , والمجاز ليس وضعا ثانيا يتلو وضعا سابقا عليه ,ذلك ان الانسان القديم لم يقسم الدلاله الى حقيقيه واخرى مجازيه ,لان هذه  القسمه ظهرت في عصور متأخره ظهر فيها التفكير المنطقي الذي اعتبر الحدس نوعا  من المجاز تابعا له .

 

  إن ما بدا لنا في لغة الأساطير مجازا, بدا للبدائي حقيقة, وان ما تسميه اليوم تجسيدا أو تجسيما أو تمثيلا, كان في الزمن الأول ضرورة من ضرورات التعبير, كان إيمانا وعقيدة.

 

   تبدو التراكيب المجازية من حيث هي أشكال رمزيه الينبوع الذي اغترفت منه اللغه والاساطير ومن الباحثين من يرى ان العقل البشري لا يدرك الا بالرموز ,ولا يعبر عن الافكار الا على سبيل المجاز وليس على سبيل الحقيقة، لذا ذهب كاسيرر الى ان اللغة والاسطورة هما نتاج تفكير مجازي وقال مولر :كان لابد للانسان ان يتكلم بالمجاز اراد ذلك ام لم يرد ؟, وراى هربرت ريد ان الاسطوره تحيا بالمجاز , , وذكر (فيكو) ان من الرمز تطور المجاز وثنائية المعنى.

 

   جمع الانسان البداني بين المجتمع والطبيعه في وحدة واحده, فوحد بين الاشياء والاحياء , وتصور الخليقه على نحو يشبه الظروف الانسانيه , ونظر الى الظواهر الطبيعيه وكأنها تجارب انسانيه ,راى الكون بهواه الشخصي ,وفردتيه الخاصه ,ولم يكن له كما يقول كرولي:لم يكن للانسان  الا اسلوب واحد للتفكير , واسلوب واحد في التعبير ,واسلوب واحد للكلام وهو الاسلوب الشخصي .

 

   أغدق الانسان على عالمه الطبيعي من صفاته الانسانية , فجعل للاشياء ارواحا كما للاحياء نفوسا , لم يتخيل عالمه هذا جامدا صامتا دائما،راه زاخرا بالحياه ممتلئا بالحركه ,ولم تكن الافكار عنده مستقله بذاتها , وانما مرتبطه بالانت الذي يكشف عن نفسه من خلال علاقة مشاركه معه ينعدم فيها الانفصال الذهني .

 

  وحينما كان هذا الانسان لا يميز فكريا بين الواقع والمثال او بين الذاتي والموضعي ,او بين الشيء ورمزه ,وحينما لم يكن مؤهلا لاستخدام اللغه في التعبير عن افكاره وانفعالاته , وحينما لم يستطيع السيطره على كثير من جوانب الطبيعه من حوله ,لجأ الى مبدأ ألمشاكله او المشابهة او المثال الذهني , لجأ الى الطقوس السحريه التي كانت في نظره عملا على مستوى العمل الحقيقي ,فكان اذا اراد تحقيق شيء مثله او صوره او شكله , ورقص له او غنى اليه , كان الصياد اذا اراد صيد حيوان رسمه صريعا على باب كهفه ,وكان المحارب يعتقد بهزيمه عدوه اذا رسمه مهزوما قبل المعركه ,كانت الصوره هي التصوير والشيء المصور في ان ,وهي الرغبه وتحقيق الرغبه ,ولم تكن الا استباقا للنتيجة المطلوبة , وكان يعتقد جازما وقوع الحادث الحقيقي في اعقاب التمثيل السحري له.

لقد غلب الاسلوب التصويري على الفكر الاسطوري , ومما يؤكد النزعه التصويرية فيه ان الكتابه بدأت بنقل صور الاشياء منقوشة على ألواح الطين بالمبدأ ذاته الذي بدأ به الانسان ينقل اللغه عن الطبيعه كحكايات قابله للتنفيذ.

 

ان انتقال الانسان من التعامل مع الشيء الملموس الى التعامل مع صورته الذهنيه , واستخدام رمزه , هو انتقال  من لغه الاشاره والعلاقه الى لغه  المفهوم المجرد والرمز ,  وهو انتقال من اللغه المخبره الى اللغه الرامزه ,مما يعني بداية صياغة العالم الطبيعي والاجتماعي لغويا.

 

وفي خضم هذا الانتقال كان التفكير الخيالي القوي هو السابق والفاعل في عملية الادراك عند اناس يتسمون بضعف فكرهم النطقي , وفقر لغتهم التعبيرية , لقد شكل الانسان البدائي صور خياله قبل تشكيل الكليات ,فسبق الغموض الوضوح عنده , وغنى قبل ان يتكلم , وتحدث شعرا قبل ان ينثر واستخدم الرمز قبل ان يستخدم المصطلح .

 

وكان للغة في في خضم هذا الانتقال دور اساسي في الادراك يشبه دور الاسطوره , فكان فن التعبير وسيلة سحريه مثل وسائل الاسطوره الاخرى كالتصوير والتمثيل والتشكبل للسيطره على الظواهر ومعرفتها ,كانت القوة السحريه للكلمه تجعل الاشياء  اذا سميت معروفه للجماعه خاضعة لها , كما تجعل للفرد اذا سمته الجماعه وجودا حقيقيا , لم تكن الكلمه في التفكير الاسطوري   مجرد اشاره او صوت او شكل مرقوم, وانما  كانت بما تمتلك من قوة وحياة تدرأ خطرا , وتجلب نفعا, تبطل نحسا، وتجلب شعرا ,وليس الرقى والتعاويذواقوال الكهنه والعرافين الا تجسيدا عميقا لايمان الانسان القديم العميق بالقدره السحريه لهذه الكلمات.

 

لم يكن عالم الذهن الذي نستحضر من خلاله الاشياء والافعال بالنسبه للانسان القديم عالما مثاليا رمزيا . كما هو لنا اليوم , بل كان امتدادا للعالم الطبيعي الموضعي ,يخلق فيه الاشايء بتسميتها ويحددها برموز يستدعيها،فتثير فيه من الدهشة  كما لو كانت حاضرة في الواقع , ويستحضر معها خواصها الفاعله وقدرها وقدرتها التي هي حصيلة تجارب تاريخ طويل , فالتاج رمز الملك , والمعبد رمز القوه المطلقة, وقد اطلق السومريون على هذه الخواص اسم "نم" واطلق عليه الاكاديون لفظة (شمتو) وما تزال اللفظتان حيتين في لغتنا , فيعني الفعل "نم" الكشف عن سر الشيء وخواصه وكل ما ينم عنه , وتعني (شمتو) سمة الشيء وشيمته.

 

وعلى الرغم من اختلاف الباحثين حول نشأة الاسطورة وتفسيرها الا انهم يجمعون على صفتها الرمزيه ,مما جعل كاسيرر يصفها بأنها شكل حياة رمزي .

 

لقد انبعث الرمز الاسطوري من حدس الانسان البدائي , فكان القوه العظيمه التي مكنته من التغلب على عجزه وقصوره  وميزته  عن عالم الحيوان , ووسعت دائرته الوظيفيه كماً وكيفاً .وهذا ما جعل كاسيرر يحد الانسان بأنه حيوان رامز بدلا من حده بالعقل او النطق.

 بين اللغه والاسطوره جذور مشتركه وقرابه قريبة , وعلاقات متبادله , لا نستطيع من خلالها ان نفرق احداهما عن الاخرى ,وذلك لان الانسان حينما امتلك القدره على الكلام كان تحت سيطره خلق الاسطوره , انهما توأمان ينبعان من فعالية عقليه واحده تبدو في تكثيف التجربه  الحسيه وتركيزها , حيث تكتمل العمليه الباطنيه في الفاظ الكلام والاشكال الاسطوريه, فتبدو اللغه والاسطوره حلولا  للتوتر , وتمثلا للدوافع الذاتيه واثاره تتشكل في صور واشكال موضوعيه محدده.

 

تشترك اللغه مع الاسطوره في الشكل الباطني, واذا كانت الفلسفه الحديثه قد اوجدت مفهوم (الشكل اللغوي الباطني) لدراسه فلسفه اللغه فأن ثمة شكلا باطنيا في الاسطوره لانها نتاج الوعي الباطني والحدس ، وفعل من افعال الروح والوجدان.

وتشترك اللغة مع الاسطورة في موضعة المدركات في الرمزية اللغوية تموضع  التأثيرات كما توضع الرمزيه الاسطوريه المشاعر . 

والخيال قاسم مشترك بينهما من خلاله كانت الاسطوره , ومن خلاله تم التعرف الى طريقه تصوير  الحقيقه في الاصل عن طريق ميلاد الصور, وبالتدريج تولدت المفاهيم المنفصله التي شكلت العالم فيما بعد ويعتقد كاسيرر ان الخيال الذي يصنع الاسطوره يعمل بنفس اسلوب الخيال الذي يصنع الكلمه .

 

واللغه والاسطوره من اقدم ظواهر التعبير الرمزي المشترك في كل الافعال الحضاريه , وكلاهما سبق  التفكير المنطقي , فقد كان للانسان لغة وهو في مرحلته الحيوانيه حينما كان يعبر بصيحاته ونداءاته عن انفعالاته ومشاعره .

 

واللغه والاسطوره لا تصلان بين الحقائق المجرده, وانما الذي يقوم بهذا الوصل هو الانسان , فمن خلال مواجهته العالم من حوله تنبع اللغه والاسطوره , وجميع اعمال البشر النطوقه لتصل بين هذه الحقائق وفهم الانسان الخاص لها بسؤاله عما يمكن فعله مع العالم وليس بسؤاله عن ما هية الحقائق الماثله للعيان.

 

والغموض والابهام سمة مشتركه بينهما في اصلهما , ودليل اكيد على انحدارهما من اصل واحد , فكما تحدت الاسطوره كل قواعد المنطق كذلك كانت اللغه مصدرا للاوهام والاباطيل على الرغم مما بها منطق وعقلانيه – بما فيها من تعميمات وتعدد المعاني والمترادفات  في الكلمات ولقد ادت تسمية الشيء  بأسمين مختلفين الى انبعاث شخصيتين مختلفتين .

 

وعلى الرغم من كل الصفات  المشتركه بينهما الا ان فلاسفة الاسطوريه المقارنه في النصف الثاني من القرن التاسع عشرا امثال  كوهين ومولر قالو بأولية التصور اللغوي على الاسطوري وفسروا المجاز الاصلي الموجود في كل صياغه اسطوريه بأنه ظاهره لغويه في جوهرها .

لكن ما دامت  اللغه تعبيرا والاسطوره تصورا , وما دمنا لا نستطيع الفصل بين التصور والتعبير او الشكل والمضمون او اللفظ والمعنى فلنا ان نستبدل كما يقول كاسيرر تصور المعيه بتصور الاولويه , والتصوران وان كانا يحيلان على مقولة الزمان الى ان تصور المعية يجعلنا نتجاوز الفصل التعسفي بين مضمون التصور ومضمون التعبير .

المؤتمر
عنوان المؤتمر
الأسطورة في النصوص المقدسة
دولة المؤتمر
تونس
تاريخ المؤتمر
21 إبريل، 2016 - 23 إبريل، 2016
راعي المؤتمر
مخبر تجديد مناهج البحث والبيداغوجيا في الانسانيات /كلية الاداب والعلوم الانسانية /القيروان
معلومات إضافية
موقع المؤتمر الإلكتروني