خطاب الصورة في مواجهة جائحة كورونا الكاريكاتير نموذجاً
نوع المنشور
بحث أصيل
المؤلفون

خطاب الصورة في مواجهة جائحة كورونا

الكاريكاتير نموذجاً

              

أ.د.خليل عودة/ جامعة النجاح الوطنية- فلسطين

د.ميس عودة/جامعة الاستقلال- فلسطين

 

مقدمة:

      لم تعد اللغة وحدها وسيلة اتصال وتواصل في مخاطبة الآخر، أو نقل الأفكار، وإحداث الأثر والتأثير، وإنما وجدت وسائل خطاب أخرى لا تقل أهمية عن اللغة، وقد تكون الصورة واحدة من هذه الوسائل التعبيرية المؤثرة في عملية التواصل، فتعبيرات الصورة وايحاءاتها ودلالاتها قد تكون أكثر تأثيراً من إيحاءات الكلمة ودلالاتها، لأن المثيرات البصرية في الصورة قد تصل إلى المتلقي قبل المثيرات السمعية، ومن هنا جاء التحول الواضح في وسائل الإعلام من النص المكتوب أو المسموع إلى النص المصور المعتمد على المشاهدة، وفقدت كثير من وسائل الاعلام التقليدية قدرتها على التأثير والتواصل مع جمهور المتلقين، واستطاعت الصورة المرئية أن تختزل كثيراً من المعاني والقضايا في رموز تعبيرية إيحائية تعجز كلمات كثيرة عن الإحاطة بها.

 

      وتتعدد أشكال الصورة وأنماطها التعبيرية، فهناك من يشكل صورة فتوغرافية استناداً إلى حدث معين، ويقدم الصورة من زاوية خاصة يبرز من خلالها فكرة أو دلالة إيحائية لا تستطيع الكلمات المجردة أن تؤديها، وهناك من يشكل صورة تشكيلية أو جرافيكية بأبعاد ثلاثية أو غير ثلاثية، ولكنها تحمل دلالات إضافية من خلال الأبعاد التي تتشكل منها، وهناك من يقدم الصورة الكاريكاتورية المليئة بالشحنات التعبيرية من خلال التبئير أو التضخيم لبعض الرموز التي تتشكل منها الصورة، والتي يحاول الفنان توجيهها بوعي وقصد للمتلقي الذي يتفاعل مع هذا التشكيل الفني الذي يجمع بين الإمتاع والإقناع، وعن طريق هذا التفاعل يصبح الوعي بمضمون الصورة ودلالاتها أقوى من التعبير النمطي العادي، فمن غير شك "أن الطبيعة الرمزية المصورة بأجناسها كافة، هي التي دفعت إلى القول بأن صورة واحدة تساوي ألف كلمة"([1]).

 

      ورغم أهمية الصورة وقدرتها على التأثير، فإن التركيز كان في المقام الأول على ثقافة الأَذن، ومدى قدرة الكلمة على التأثير في المتلقي، غير أن التقنيات الحديثة، والتقدم الهائل في مجال التصوير، والأعمال الفنية، قد أضافت إلى ثقافة الأذن ثقافة الصورة باعتبارها وسيلة واعية في توجيه الخطاب والتأثير في المخاطبين، فالتعامل مع الصورة أسهل من التعامل مع الكلمة.

وتأتي الصورة الكاريكاتورية في مقدمة الصور البصرية التي يركز عليها الإعلام المعاصر باعتبارها تمثل خطابًا مستقلاً واعياً قد يجمع بين اللغوي وغير اللغوي، فالوعي الفكري يعتمد الصورة ومكوناتها، بدلاً من اللغة ومعطياتها، ويَعتمد الصورة البصرية بدلاً من الصورة الذهنية المجردة، وهي صورة غنية بإيحاءاتها ورموزها ودلالاتها، وقدرتها على التأثير، لأنها تجمع بين التعبير الساخر، والإيحاء المعبر. وفي هذا السياق يتناول البحث مجموعة من الرسومات الكاريكاتورية التي وظفها الرسامون في مواجهة الجائحة وإبراز ما فيها من إيحاءات ودلالات تعبيرية.

وتشكل الصورة بأبعادها المختلفة مصدرًا هامًا للإعلام والتوعية والتثقيف، وذلك من خلال سيطرتها الكاملة على وسائل الإعلام المختلفة وهيمنتها على المتلقي، وسرعة وصولها إلى جميع الفئات بغض النظر عن المستوى الاجتماعي أو الطبقي أو الأيدلوجي، وهي تحمل الفكرة مقرونة بالدليل البصري الذي تعجز الكلمات المجردة عن إيصاله وإقناع المتلقي به، "إن الخطاب الذي تشكله الصورة المرئية هو خطاب متحرك يتعلق بقدرة العين الباصرة على تحليل مكونات هذا الخطاب، وتصور غاياته، لذا فإن الوظائف الانتاجية لهذه الصورة مرتبطة بما تكتسبه العين من مشاهد متوالية بلا توقف" ([2]).

 

      ومما لا شك فيه أن ثقافة الصورة لا تلغي ثقافة الكلمة، فكلاهما موجود، وأصحاب الصورة ينافسون أصحاب الكلمة، والعكس صحيح، وكل فرق يحاول أن يضع ثقافة خاصة به من خلال قوة التأثير والجذب، وقد يتكئ أصحاب ثقافة الصورة على الكلمة، أو أصحاب ثقافة الكلمة على الصورة، لأن أحدهما لا يمكن أن يلغي الآخر، أو على الأقل أن ينعزل عنه، ولكن الجديد في الأمر أن الصورة بدأت تنافس الكلمة، وتحاول التغلب عليها في كثير من وسائل الإعلام وقنوات الاتصال المباشر وغير المباشر، فهي الأبسط والأسهل في الوصول والتأثير لأنها لا تحتاج إلى ثقافة خاصة في عملية التلقي، أو التفاعل معها.

      وقد تكون الصورة بسيطة في دلالاتها وتعبيراتها، ولكنها تحمل الكثير من المضامين الفكرية والدلالات الرمزية، والايحاءات السيميائية التي تؤثر في المتلقي بطريقة عفوية، وتدفعه إلى القبول بها دون تفكير أو مراجعة، لأنها على الأقل حققت له متعة المشاهدة أولاً والإقناع بمحتواها ثانيًا، وهذا ما يحدث في رسومات الكاريكاتير التي تستطيع بذكاء إمتاع القارئ بالرسومات البسيطة المعبرة، والتفاعل مع الفكرة بعد أن تكون الصورة قد استمالته إليها، وقربته من مضمونها.

 

      ومن هنا يأتي هذا البحث الذي يحاول رصد خطاب الصورة من خلال صور الكاريكاتير التي تناولت موضوع جائحة كورونا، واختلفت وسائل التوظيف فيها، وقد رصدت الدراسة ثلاثة أبعاد تم من خلالها توظيف صورة الكورونا في الخطاب الكاركاتيري وهي: البعد التفاعلي، البعد الديني، البعد السياسي.

الكورونا في الخطاب الكاركاتيري:

أولاً: البعد التفاعلي في الصورة الكاركاتيرية:  

   تشكل خطاب الصورة الكاريكاتورية في أكثر من مشهد، وتعددت المساحات التعبيرية التي تناولها رسامو الكاريكاتير، واستطاعوا بوساطتها تقديم أفكارهم ومعالجة الموضوع بشكل تفاعلي، يثير دهشة المتلقي، ويجعله أكثر حضوراً وتفاعلاً مع الصورة التي تقدم له في أبعاد سيميائية تحتوي العديد من الألوان والزوايا والرموز التي تم اختيارها في الصورة بشكل مدروس ومعبر.

   ومن هذه الصور التفاعلية ما قدمه الفنان العجيلي العبيدي في تقديم الدور الكبير الذي يقوم به أطباء العالم في مواجهة هذا الوباء المتفشي.

 

 

 

والصورة تحمل دلالات تعبيرية ربما تعجز الكلمات المكتوبة أو المنطوقة عن إيصالها، والرسام هنا لم يوظف النص المكتوب في خطابه الموجه إلى المتلقي بل يعتمد الصورة بإيحاءاتها السيميائية المعبرة، وهو بذلك يجعل عملية التلقي أكثر تأثيراً وقبولاً، لأن المعنى المراد لا يقدم له في صورة كلمات ربما يسمعها ولا يتفاعل معها، وهنا تأتي المؤثرات البصرية لتجعل المعنى أسهل حضوراً واستقبالاً، لأن المؤثرات البصرية أقوى من المؤثرات السمعية، وهنا تختزل الصورة كثيرا من الرموز والدلالات التي يحتاج إلى التعبير عنها بكثير من الكلمات والجمل والعبارات " إن الخطاب الذي تشكله الصورة المرئية هو خطاب متحرك يتعلق بقدرة العين الباصرة على تحليل مكونات هذا الخطاب وتصور غاياته، لذا فان الوظائف الإنتاجية لهذه الصورة مرتبطة بما تكتسبه العين من مشاهد متوالية بلا توقف، وعليه فان للمدرك الحسي العياني مهمتين:

"المهمة الأولى: تتعلق بتلقي رموز الصورة وإيصالها إلى الدماغ لتفسيرها وإعطاء دلالاتها.

المهمة الثانية: إدراك ما يتناسب من الصور الكثيرة والمتوالية التي تم الاقتناع بمحتواها"([3]).وهنا نجد أنفسنا أمام ثنائية واضحة في تشكيل الصورة، ثنائية تجمع بين شبح كورونا في زاوية من زوايا الصورة، والطبيب الذي يحاول التصدي للجائحة وحماية العالم في الزاوية الأخرى.

والدلالات السيميائية في الزاوية الأولى تكشف عن مشهد الرعب الذي تجسد في الخطوط والألوان والملامح العامة، فصورة الوباء تجسدت في صورة قزم ضخم الرأس عاري الجسد، كشر عن أنيابه الحادة، أما رأسه فمغطى بسهام الشر التي يريد أن يهاجم بها البشر على امتداد الكرة الأرضية، وهو يقف  في موقف الاستنفار والاستعداد للهجوم.

  فيما يبدو في الطرف المقابل الطبيب الذي يواجه الوباء بشجاعة وهدوء، ويدافع عن العالم كله بذراعين مفتوحتين واستعداد تام للمواجهة، وقد لبس اللباس الخاص بالأطباء في الرأس والجسد والقدم، ووضع إلى جانب ذلك كمامة إشارة منه إلى وسائل الحماية المستخدمة وفيها أيضا نوع من أنواع التوجيه والإرشاد.

أما بخصوص سيميائية الألوان في المشهد البصري، نجد الرسام وضع اللون الأخضر في صورة الوباء المتمثل في صورة القزم، وجاء اختيار هذا اللون عن قصد، فقد اختاره لدلالة رمزية تكشف عن حيوية هذا الفيروس ونشاطه فهو ما يزال في بداياته الأولى، لم تجف عروقه بعد، ولم تذبل أوراقه، وهو يستعد بكل قوته لمهاجمة العالم دون تمييز أو مجاملة لأحد.

   ووضع بعد ذلك اللونين الأسود والأحمر في داخل فمه بما يحمل هذان اللونان من دلالة رامزة، فاللون الأسود داخل الفم ترى فيه الحقد والغضب، واللون الأحمر الذي يأتي خلف الأنياب تشم فيه رائحة الموت، والأنياب البيضاء لا تعكس براءة المنظر وإنما تعكس حد السكين التي يحملها بين فكيه ويريد من خلالها أن يلتهم العالم.

  وفي مقابل هذا المشهد البصري المرعب تأتي الصورة الضدية المقابلة، وهي صورة الطبيب الذي يجمع في ملابسه بين اللونين الأبيض والأزرق، وهذان اللونان فيهما إشارة إلى الرمز الإنساني في صورة الطبيب، لأنهما لونان يميزان ملابس الطبيب في أثناء العمل، وإلى جانب هذين اللونين نجد سيميائية أخرى في اختيار اللون الأخضر للقارات التي تظهر في صورة الكرة الأرضية، بما يحمل هذا اللون من إشارة واضحة إلى حالة الأمن والأمان التي يعيشها العالم في هذه الكرة المغلقة التي يحاول الوباء اختراقها، أما البحار والمحيطات التي كنا نتوقع أن تلون باللون الأزرق، فقد فاجأنا الرسام باللون الأصفر وهو اللون نفسه الذي نجده في عين الفيروس، وفي اختيار هذا اللون إيحاء دلالي إلى ما يتطلع إليه الفيروس بإحالة الخضرة التي ينعم بها العالم إلى خريف أصفر جاف يأكل الأخضر واليابس.

  وإلى جانب سيميائية الألوان تتكشف أمامنا سيميائية الحركة، فالفيروس في موضع الاستعداد للانقضاض على العالم، فالصدر منه يتقدم، واليدان إلى الخلف، والقدمان تتحركان نحو الهدف والفم مفتوح، والأنياب بارزة، والتحدي قائم.

  وفي مقابل هذه الحركة، يقف الطبيب موقف الدفاع عن العالم كله، وقد فتح ذراعيه، وكشف عن صدره استعداد للمواجهة، وامتدت مساحة اليدين لتغطي الكرة الأرضية جميعها، ووضع في المشهد قارتي آسيا وأفريقيا وهما موضع اهتمام الرسام الذي ينتمي إلى هذه المساحة المكانية.

التناص الديني والأدبي :

  يبدو أن الرسام استوحى دلالات دينية وأدبية في بعض زوايا الصورة، فصورة رأس الفيروس، وما فيها من قبح تذكرنا بشجرة الزقوم التي شبهت في القرآن الكريم برؤوس الشياطين في قوله تعالى "طلعها كأنه رؤوس الشياطين"([4])

  وفي صورة الفيروس الذي تبدو أسنانه البيضاء في فمه، نجد صورة مضللة تجمع بين التكشير والضحك، وربما يكون الرسام استوحى هذه الصورة من بيت المتنبي:

 

                  إذا رَأيتَ نُيُوبَ اللّيثِ بارِزَةً     فَلا تَظُنَّنَ أَنَّ اللَيثَ يَبْتَسِمُ ([5])

وتركز صور الكاريكاتير التفاعلية بشكل خاص على الدور الإيجابي للأطباء في مواجهة الجائحة وحماية أرواح الناس كما يظهر في صورة الكاريكاتير، وابتعد العبيدي عن اللغة المكتوبة في اللوحة الكاريكاتورية، غير أنه وضع الاسم الإنجليزي للفيروس على الفيروس نفسه للإشارة إلى الأصل غير العربي وأنه صناعة أجنبية لا دخل للعرب بها.

  وضمن الكاريكاتير التفاعلي يقدم العبيدي صورة كاريكاتورية فيها رجل غير مبال وغير ملتزم بقواعد السلامة العامة، يخرج من أنفه رذاذ قاتل  يصيب به رجلاً عجوزاً ينتهي به الحال إلى جوف  الفيروس القاتل الذي يستقبل الضحية بابتسامة عريضة وذراعين مفتوحتين، وهنا نجد مرة  أخرى سيميائية الحركة ولغة الجسد، فالمرض يبدو واضحاً في وجه الرجل وهو ينقل الفيروس عن طريق الرذاذ إلى الرجل العجوز الذي ينظر إلى الرجل المصاب بعين الغضب وعدم الرضا، لأن ما فعله هو عملية قتل حقيقية، أسلمته مباشرة إلى الفيروس القاتل الذي فتح فمه إلى أقصى حد ممكن، ورفع يديه ترحيباً بالضحية، وأصبح جاهزاً لابتلاع الرجل المصاب، ونجده مرة أخرى يؤكد على وضع اسم الفيروس باللغة الإنجليزية  للدلالة نفسها التي ذكرناها سابقا وهو يؤكد ذلك في كل رسوماته التي تناول فيها موضوع الفيروس.

 

  وفي صورة أخرى من صور التفاعل في مواجهة الجائحة، يقدم الرسام صورة صراع  قوي وتحد عنيد بين الطب والجائحة، وتظهر في الصورة الثنائية الضدية بين المرض والطب، ويتسلح كل طرف بما يملك من إمكانات المواجهة والتحدي.

 

وهنا نجد تكرارا للسيميائيات التي برزت في الصورة السابقة، ويكاد المعنى نفسه يتكرر مع إضافات فنية جديدة، فالثنائيات الضدية تشكل المنظر العام للصورة، فالضد الأول يتشكل في صورة الوباء، وهو في حالة استنفار واستعداد للهجوم، بينما يشكل الطبيب ثيمة ضدية مقابلة للفيروس، ومن خلفه سكان أبرياء لا يملكون حيلة ولا قوة سوى الالتزام بوسائل الحماية المتاحة، وانتظار ما يمكن أن يفعله الطبيب لحمايتهم.

وهنا تبدو سيميائية الألوان واضحة، فاللون الذي يتشكل منه الفيروس هو اللون الخضر والدلالة الرمزية هي نفسها التي لاحظناها في الصورة السابقة، فالفيروس في كامل حيويته ونشاطه، واللون الاصفر هو للعينين اللتين تتطلعان إلى خراب العالم وتدميره، والأسنان بيضاء حادة، وداخل الفم سواد قاتل، والرأس قنبلة موقوتة تنتظر لحظة الانفجار والتدمير.

  واتكأ الرسام هنا على عنصر الحركة في تقديم المعنى والإيحاءات التعبيرية، فالفيروس في حالة استعداد، ينظر بغضب إلى الناس خلف الطبيب، وفمه مفتوح، وجسمه مندفع إلى الأمام، ورأسه قنبلة تنتظر لحظة الانفجار، ومشاهد الرعب والخوف تحيط به من كل مكان.

  وفي الثنائية الضدية المقابلة نجد الطبيب في حالة هجوم، مع كل الاحتياطات اللازمة للمواجهة وكأنه أراد أن يقول أن الاندفاع نحو المواجهة يجب أن يكون محسوباً ومدروساً، فو يلبس القفازات في يديه، والكمامة على أنفه وفمه، وسلاح المواجهة وهو الدواء والعقاقير الطبية التي يستمد منها قوته، ويستطيع معها أن يضرب الفيروس ويوجه له الضربة القاضية.

  وهنا يوظف الحركة توظيفاً فنياً، فالضربة التي تأتي من الطبيب تكون على أنف الفيروس، وهنا إشارة إلى محاولة إذلاله والنيل من كبريائه، فالأنف عند العرب هو رمز الشموخ والكبرياء، أما الناس خلف الطبيب فكانوا يراقبون المشهد عن بعد بعيون حذرة وقلوب واجفة، وجمع الرسام الناس في فئات عمرية متفاوتة، رجالا ونساء فكأنهم يمثلون العنصر البشري في الكرة الأرضية جميعاً، فالبعد المكاني والزماني غير محدد بل يمتد إلى ما وراء الصورة.

  والصورة بشكل عام تعكس حدة الصراع بين الخير والشر، والرسام يؤكد في المشهد البصري والحركي حتمية انتصار الخير، فإذا كان الناس يضعون الكمامات على أنوفهم خوفا من الفيروس، فإن الفيروس في المقابل قد جدع أنفه الذي اختفى تماما خلف ضربات الطبيب التي نالت منه ومن سطوته.

ويستمر الصراع بين المرض والطبيب، وفي الصورة الآتية يتسلح الطبيب بالرموز الطبية (لباس الطبيب-الكمامة-القفازات-غطاء الرأس) وفي الضد المقابل يتسلح الفيروس بسهامه ويده التي أحكمت قبضتها على يد الطبيب، ومخالبه الحادة التي التفت حول أصابع الطبيب. إلى جانب ذلك وظف الرسام لغة الجسد التي تغني المتلقي عن لغة الخطاب، فالطبيب ينظر إلى الفيروس بعين حادة، وقد رفع حاجبه، وركز في مهمته كأنه يبحث عن نقاط الضعف في خصمه، وفي المقابل جاءت يد الفيروس من أنفه إشارة إلى استعلائه وعدم مبالاته بالطرف المقابل وهو ينظر إليه بعين نصف مفتوحة، وفم مفتوح وأسنان متشابكة في إشارة واضحة إلى الغيظ والغضب الذي يحمله في داخله على الطبيب الذي يحاول التصدي له.

 

 و يلعب الطبيب دوراً تفاعلياً بارزاً في عملية التوجيه والتصدي للجائحة، ولا يقتصر دوره على مواجهة المرض، وإنما يحاول تثقيف الناس في مواجهة المرض، وهذا ما نجده في صورة الكاريكاتير الآتية:

 

فالطبيب يرسم للناس طريقة الوقاية من الفيروس بطريقة إرشادية تفاعلية فيضع للناس منطقة الأمان، وهي البيت الذي فيه الأب والأم والأطفال وهم يحتضنون الأبوين، والطبيب يغلق باب البيت في إشارة واضحة منه إلى الإرشادات الطبية التي تدعو المواطنين إلى ضرورة التزام البيت كأفضل وسيلة للحماية من الفيروس.

  والصورة الكاريكاتورية تحمل كثيراً من الدلالات الأسلوبية، فالبيت يبدو نظيفاً بالمطلق من الفيروس والأب يحتضن أفراد أسرته ويحافظ عليهم داخل المنزل، والأطفال يحتمون بالأب والأم، والطبيب يحاول إغلاق البيت لحمايتهم، وهو يلتزم بقواعد السلامة العامة خارج المنزل، فيما يبدو الفيروس ينتشر انتشارا واسعا في الخارج، ويحيط بالمنزل من كل الجهات، في إشارة واضحة إلى الخطر الكبير الذي يتهدد الناس في كل مكان.

   وهنا تبدو سيميائية الألوان أيضاً، فأرضية البيت نقية صافية لا توجد فيها شوائب، وتخلو تماماً من آثار الفيروس، والفاصل بين البيت والفيروس خارج البيت هو خط أبيض إشارة إلى منطقة الأمان التي تفصل البيت عن الخطر الخارجي. أما الفيروس فهو ينتشر بكثافة ويملأ المكان بلونه الأخضر في إشارة إلى حالة الاستعداد والحيوية التي يتمتع بها، والطبيب ما زال يحافظ على كمامته وثيابه التي تجمع اللونين الأزرق والأبيض.

ثانياً: البعد الديني في الصورة الكاركاتيرية:

البعد الديني يلامس الوجدان ويشكل رمزاً مائزاً في الخطاب البصري لما له من أثر في استنطاق اللوحة والتأثير في المتلقي من الناحية الدينية، ويعد توظيف البعد الديني في الصورة الكاركاتيرية وسيلة لتقريب الواقع والتأثير على المتلقي من خلال استحواذ العقل والوجدان، فإذا اجتمع الإبداع الفني البصري ممزوجاً بالثيمة الدينية كان أبلغ تعبيراً من اللغة المكتوبة، وأكثر تأثيراً مما يسهل فهم الصورة واستيعاب مقصودها.

يسعى الفنان لتحويل الرمزية الدينية إلى بعد جمالي من خلال توظيف بعض الدلالات بشكل غير مباشر، لما لها من تأثير عند الجمهور المتلقي، وفي الصورة الآتية وظف الفنان البعد الديني من خلال استثمار المثير العقائدي موظفاً موسم الحج الذي أصبح خالياً من الحجيج من خلال استحضار صورة الفيروس مرتدياً زي الحج وقد بدت عليه مشاعر الحزن والألم من خلال دموع الخشوع والتأثر في مفارقة ساخرة لتبادل الأدوار إذ خلا الموسم من الحجاج وعوض هذه الجمع الغفير وجود الفيروس الذي شلّ مجالات الحياة من بينها المجال الديني فالمساجد بلا مصلين.. والحج بلا حجاج خشية أن يتحول إلى بؤرة لانتشار المرض.

ويستخدم الفنان التناص الديني من خلال استخدام عبارة ( لبيك اللهم لبيك) وهي العبارة التي يهتف بها ملايين الحجاج منذ زمن سيدنا إبراهيم حتى يومنا الحالي، موظفاً المؤثرات البصرية والذهنية؛ لتعكس المضمر الدلالي المنشود.

 

  تناول رسامو الكاريكاتير المشهد الوبائي من جوانب عدة، وكان من الطبيعي أن يكون البعد الديني حاضراً في رسوماتهم بما يحمله هذا البعد من أبعاد روحانية ونفسية تنعكس بشكل واضح عل سلوك الناس، وكيفية تعاملهم مع هاته الجائحة، وبطبيعة الحال يشكل المسجد واحدة من أهم الملامح الدينية التي تستدعي الاهتمام، وهنا يأتي دور رسام الكاريكاتير في عمليتي التوجيه والتوعية

 

والصورة هنا تعكس مشهدين أحدهما قبل دخول المسجد، والآخر بعد دخوله، فقبل الدخول توجد حالات محدودة من الإصابة، وبعد الخروج أصبح الجميع مصابا، واللوحة رغم بساطتها إلا أنها تعكس المشهد الديني المتعلق بالصلاة في المسجد،وفي المقابل المشهد الإنسني في ضرورة الحفاظ على أرواح الناس، والابتعاد عن التجمعات بكل أشكالها وتفاصيلها.

إذ يجب توعية المواطن نحو انتشار الفيروس والابتعاد عن العواطف، إذ يرفض البعض فكرة إغلاق المساجد، لتغييب المقصود الديني في فكرهم وعدم تقدير المصلحة العامة، إذ إن حفظ النفس غاية الوجود ولا يجوز تعريضها للخطر مقابل الحفاظ على الشعائر الدينية التي يمكن إيجاد بدائل لها.

والصورة تعكس انزلاق الناس نحو العاطفة دون الاستدلال الصحيح للضوابط الأصولية التي تغلب العقل على العاطفة، من بينها ضورة الحفاظ على ضرورات الحياة الخمس وأهمها الحفاظ على الحياة

واستخدم الفنان التناص الديني " صلوا في بيوتكم" كما ثبت في السنة الصحيحة قول صلوا في رحالكم، والرحل هو مسكن الرجل وما يصطحبه من أثاث أي صلوا في منازلكم لما فيها من حماية ووقاية للمجتمع.

كما أثرت جائحة كورونا على بعض الطقوس الدينية والاجتماعية لا سيما ما يتعلق بشهر رمضان المبارك الذي امتاز بصلاة التراويح وتجمع الأهل، إذ اختفت هذه المظاهر وانحجر الناس في بيوتهم وقد وظف الفنان رمزية الفانوس وما تحمله من دلالات دينية إلى البيت الذي أصبح بديلاً قسرياً للصلاة والزيارات العائلية، وقد استخدم الشاعر عنصر التكرار لهذا الفانوس دلالة على تفشي المرض والتزام الجميع الحجر المنزلي، ثم نجد صورة الفيروس مجسدة بصورة إنسان حزين وهذا يعكس عجز الفيروس على تحقيق مراده بسبب الالتزام بالحجر المنزلي الذي يعد الخيار الأمثل لمواجهة الأزمة.

 

وتتجدد مشاعر الحزن في أكثر من صورة فنية إذ تأثرت العبادات والشعائر الدينية كونها تعتمد على مبدأ الجماعة، وانتقلت الشعائر من المساجد إلى البيوت في إطار الإجراءات المتخذة لمواجهة الفيروس، وأصبحت المساجد خالية من المصلين، وقد وظف الفنان مشاعر الحزن التي انتابت المسلمين بصورة مسجد يبكي حزناً وشوقاً، وقد أصبح مظلماً بائساً ينظر بحسرة إلى البيوت المضيئة التي أصبحت مساجد بديلة، واتخذ الفنان الاتجاهات عنصراً مساهماً في الدلالة الايحائية إذ يتجه المسجد باتجاه البيت بانجذاب نحو المصلين، ويبتعد البيت عن المسجد تنفيذاً لإجراءات الوقاية.

 

ويتابع الفنانون توظيف المشهد الديني في أعمالهم الفنية، وفي الصورة الآتية يتخذ الفنان ثلاثة عناصر لتشكيل صورته ( الطبيب- اللقاح – الكورونا)، وهي عناصر في صميم المشهد الوبائي، ولكن الفنان يضفي عليها صبغة دينية عندما استعان بفكرة مدفع رمضان في مقاربة بين اللقاح والمدفع لتصبح أبلغ تعبيراً وأدق وصفاً مدعماً صورته بالسياق اللغوي من خلال توظيف كلمة ( اضرب) وهي كلمة تتضمن معنى الانتهاء، إذ إن المدفع يوحي بانتهاء وقت الصيام، كما أن اللقاح يوحي بانتهاء وقت المرض.

كما وظف لغة الجسد المتمثلة في رفع الأيدي في مقاربة ضدية بين الطبيب والكورونا، فالطبيب يرفع يداً واحدة مشيرا إلى تحقيق الهدف، أما الكورونا فترفع يديها في دلالة على الاستسلام، أما فضاء النظر وتوظيف لغة العيون فنظرات الطبيب ثاقبة وموجهة بعزم وإصرار نحو الفيروس، لكن الفيروس لا ينظر إليه بل يتبادل النظرات مع المدفع في صورة تجسد مظاهر الهلع والخوف، ولغة الجسد هنا تعبر عن مكنون شعوري، وجاءت بالتوافق مع اللغة المكتوبة لتؤكد دلالات الصورة وتستكمل فكرتها في خطاب مبطن بعيد عن المباشرة.

 

ثالثاً: البعد السياسي في الصورة الكاركاتيرية:

إن البعد السياسي في الصورة الكاركاتيرية يمتاز بالواقعية فهو مستمد من مفردات الحياة، إذ أصبحت السياسة جزءاً من الحياة اليومية، وفي ظل انتشار جائحة كورونا في العالم وانتشار رائحة الموت في كل مكان، سعى المبدع إلى توظيف طاقاته الإبداعية في الجمع بين السياسة والكورونا، إذ تم توظيف ثيمة الكورونا في خدمة البعد السياسي لتحمل بعداً سياسياً وفكرياً يختزل دلالة مركزية تتمحور في إعادة صياغة الواقع من خلال الصورة حيث عجزت الكلمات والخطابات من وصف الواقع وإنصافه.

 

 وهنا نجد المبدع في هذه الصورة يعبر عن رؤيته الفنية الخاصة في تجسيد خطر الاستيطان الصهيوني من خلال فيروس كورونا موظفاً عنصر اللون في صياغة فكرته، إذ استخدم اللون الأزرق والأبيض في تلوين الفيروس وهو علم الاحتلال الإسرائيلي ليضفي عليه صبغة شرعية، إن توظيف  الفيروس في الصورة يعكس حجم الانتشار فهو يجتاح الأراضي الفلسطينية ويقضي عليها كعمل مثيل لما يقوم به الفيروس، إذ نجد آثار الدمار تحيط بالفيروس دلالة على الهلاك والموت، بينما تحافظ القرى الفلسطينية التي لم تصلها جائحة الاستيطان على جمال اللون بطبيعة خضراء وسلام ديني يتمثل بتجانس المسجد بالقرب من الكنيسة في ظل سلام بيئي وديني واجتماعي، ويتحكم المبدع في حجم الصورة من حيث التباين النسبي بين حجم الاستيطان والاستقرار في مفارقة مؤسفة إذ تتصدر جائحة الاستيطان الصورة بحجم مضاعف لتعكس المستوى الكمي لنهب الأراضي الفلسطينية، إن التقنيات الفنية في الصورة اختزلت فكرة سياسية في رسالة موجهة للمتلقي في محاولة لتنبيه المجتمع الدولي للقيام بواجبه.

 

وتم التعبير عن معاناة الأسرى الفلسطينيين في ظل الجائحة من خلال تجسيد الإهمال الطبي والرعاية وسبل الوقاية عن طريق قنبلة كورونية يفجرها السجان الغاشم ليزيد من عمق القهر والظلم الذي يتعرض له الأسير، فالاحتلال لا يكتفي بالإجراءات القمعية داخل المعتقل بل يستغل جائحة كورونا للتضييق على الأسرى، موظفاً لغة الجسد في النظر بحقد إلى السجن لمتابعة مراحل التعذيب والتدمير، وفي ظل الدمار النفسي والجسدي نلمح يد الأسير قابعة خلف القضبان في علامة سيميائية تعكس ديمومة الصمود والصبر كأن لسان حالهم ينشد قول الشاعر: ولا بد لليل أن ينجلي   ولا بد للقيد ان ينكسر. ([6]).

 

 

واستعان بعض الفنانين بالتناص التاريخي، إذ إن استحضار التاريخ واستلهام معطايته الدلالية " ينتج تمازجاً ويخلق تداخلاً بين الحركة الزمنية حيث ينسكب الماضي بكل إشاراته وتحفزاته وأحداثه على الحاضر بكل ما له من طزاجة اللحظة الحاضرة فيما يشبه تواكباً تاريخياً يومئ الحاضر إلى الماضي." ([7])

 

يستحضر الفنان قصة طارق بن زياد موظفاً التناص التاريخي من خلال مقولته الشهيرة " البحر من ورائكم والعدو من أمامكم" عندما أراد العبور إلى الضفة الأخرى من الشاطئ الأسباني، بعبارة " كورونا وراءكم ..والفساد أمامكم، إن استحضار شخصية طارق بن زياد يجمع بين مشهدين متناقضين إذ إن طارق بن زياد يحث قومه على الصبر والصمود لمواصلة الزحف، أما في هذه الصورة الكاركاتيرية فإنها تحول الدال الرمزي من الصمود إلى الاستسلام، وتستحضر الصورة ثلاثة عناصر: السياسي، الشعب، الكورونا، ويستحضر الفنان شخصية السياسي الذي يمثل الفساد متوارياً عنه بالسبحة التي تمثل الجانب الديني، فهو يتخذ من الخطابات الكاذبة والشعارات المزيفة مزيجاً لإخفاء فساده، كما نجده في مكان أعلى من الشعب فاغراً فاه لكثرة الحديث وقلة العمل، والفارق بين المشهدين كبير واستحضار الحدث على سبيل الاستهزاء لا المشابهة، كما نجد الشعب بكافة شرائحه يعاني الخوف والهلع يستمع ولا يناقش، ورغم ما يعانيه من الفساد والقمع تأتي الكورونا لتزيد المأساة وقد جسدها الفنان بصورة إنسان غاضب يحيط بالشعب ويسلط نقمه عليهم، وبذلك تكون النتيجة أن لا مفر من الأزمات، فالشعب يقع بين مطرقة الفساد وسندان الكورونا، في إشارة خفية لقبول الفساد والتأقلم معه.

 

 

 

 

([1]) العبد، محمد: الصورة والثقافة والايصال، مجلة فصول العدد 62، سنة 2003، ص 133.

([2]) شعر الله، محمد سالم: التواصل الثقافي للصورة المرئية، ضمن كتاب قضايا النقد الأدبي بين النظرية والتطبيق عالم الكتب الحديثة، الأردن 2009، ص 33.

([3])شعر الله، محمد سالم: التواصل الثقافي للصورة المرئية، ضمن كتاب قضايا النقد الأدبي بين النظرية والتطبيق عالم الكتب الحديثة، الأردن 2009، ص 33.

([4]) سورة الصافات، الآية 65.

([5]) ديوان المتنبي، دار بيروت للطباعة والنشر، بيروت، 1983، ص332.

([6]) ديوان أبي القاسم الشابي، قدم له وشرحه الأستاذ احمد حسن بسج، دار الكتب العلمية، بيروت، 2005، ص70.

([7]) انظر: رجاء عيد، لغة الشعر العربي المعاصر- قراءة في الشعر العربي المعاصر، دار منشأة المعارف، الاسكندرية، 1985، ص 201.

خطاب الصورة في مواجهة جائحة كورونا

الكاريكاتير نموذجاً

              

أ.د.خليل عودة/ جامعة النجاح الوطنية- فلسطين

د.ميس عودة/جامعة الاستقلال- فلسطين

 

مقدمة:

      لم تعد اللغة وحدها وسيلة اتصال وتواصل في مخاطبة الآخر، أو نقل الأفكار، وإحداث الأثر والتأثير، وإنما وجدت وسائل خطاب أخرى لا تقل أهمية عن اللغة، وقد تكون الصورة واحدة من هذه الوسائل التعبيرية المؤثرة في عملية التواصل، فتعبيرات الصورة وايحاءاتها ودلالاتها قد تكون أكثر تأثيراً من إيحاءات الكلمة ودلالاتها، لأن المثيرات البصرية في الصورة قد تصل إلى المتلقي قبل المثيرات السمعية، ومن هنا جاء التحول الواضح في وسائل الإعلام من النص المكتوب أو المسموع إلى النص المصور المعتمد على المشاهدة، وفقدت كثير من وسائل الاعلام التقليدية قدرتها على التأثير والتواصل مع جمهور المتلقين، واستطاعت الصورة المرئية أن تختزل كثيراً من المعاني والقضايا في رموز تعبيرية إيحائية تعجز كلمات كثيرة عن الإحاطة بها.

 

      وتتعدد أشكال الصورة وأنماطها التعبيرية، فهناك من يشكل صورة فتوغرافية استناداً إلى حدث معين، ويقدم الصورة من زاوية خاصة يبرز من خلالها فكرة أو دلالة إيحائية لا تستطيع الكلمات المجردة أن تؤديها، وهناك من يشكل صورة تشكيلية أو جرافيكية بأبعاد ثلاثية أو غير ثلاثية، ولكنها تحمل دلالات إضافية من خلال الأبعاد التي تتشكل منها، وهناك من يقدم الصورة الكاريكاتورية المليئة بالشحنات التعبيرية من خلال التبئير أو التضخيم لبعض الرموز التي تتشكل منها الصورة، والتي يحاول الفنان توجيهها بوعي وقصد للمتلقي الذي يتفاعل مع هذا التشكيل الفني الذي يجمع بين الإمتاع والإقناع، وعن طريق هذا التفاعل يصبح الوعي بمضمون الصورة ودلالاتها أقوى من التعبير النمطي العادي، فمن غير شك "أن الطبيعة الرمزية المصورة بأجناسها كافة، هي التي دفعت إلى القول بأن صورة واحدة تساوي ألف كلمة"([1]).

 

      ورغم أهمية الصورة وقدرتها على التأثير، فإن التركيز كان في المقام الأول على ثقافة الأَذن، ومدى قدرة الكلمة على التأثير في المتلقي، غير أن التقنيات الحديثة، والتقدم الهائل في مجال التصوير، والأعمال الفنية، قد أضافت إلى ثقافة الأذن ثقافة الصورة باعتبارها وسيلة واعية في توجيه الخطاب والتأثير في المخاطبين، فالتعامل مع الصورة أسهل من التعامل مع الكلمة.

وتأتي الصورة الكاريكاتورية في مقدمة الصور البصرية التي يركز عليها الإعلام المعاصر باعتبارها تمثل خطابًا مستقلاً واعياً قد يجمع بين اللغوي وغير اللغوي، فالوعي الفكري يعتمد الصورة ومكوناتها، بدلاً من اللغة ومعطياتها، ويَعتمد الصورة البصرية بدلاً من الصورة الذهنية المجردة، وهي صورة غنية بإيحاءاتها ورموزها ودلالاتها، وقدرتها على التأثير، لأنها تجمع بين التعبير الساخر، والإيحاء المعبر. وفي هذا السياق يتناول البحث مجموعة من الرسومات الكاريكاتورية التي وظفها الرسامون في مواجهة الجائحة وإبراز ما فيها من إيحاءات ودلالات تعبيرية.

وتشكل الصورة بأبعادها المختلفة مصدرًا هامًا للإعلام والتوعية والتثقيف، وذلك من خلال سيطرتها الكاملة على وسائل الإعلام المختلفة وهيمنتها على المتلقي، وسرعة وصولها إلى جميع الفئات بغض النظر عن المستوى الاجتماعي أو الطبقي أو الأيدلوجي، وهي تحمل الفكرة مقرونة بالدليل البصري الذي تعجز الكلمات المجردة عن إيصاله وإقناع المتلقي به، "إن الخطاب الذي تشكله الصورة المرئية هو خطاب متحرك يتعلق بقدرة العين الباصرة على تحليل مكونات هذا الخطاب، وتصور غاياته، لذا فإن الوظائف الانتاجية لهذه الصورة مرتبطة بما تكتسبه العين من مشاهد متوالية بلا توقف" ([2]).

 

      ومما لا شك فيه أن ثقافة الصورة لا تلغي ثقافة الكلمة، فكلاهما موجود، وأصحاب الصورة ينافسون أصحاب الكلمة، والعكس صحيح، وكل فرق يحاول أن يضع ثقافة خاصة به من خلال قوة التأثير والجذب، وقد يتكئ أصحاب ثقافة الصورة على الكلمة، أو أصحاب ثقافة الكلمة على الصورة، لأن أحدهما لا يمكن أن يلغي الآخر، أو على الأقل أن ينعزل عنه، ولكن الجديد في الأمر أن الصورة بدأت تنافس الكلمة، وتحاول التغلب عليها في كثير من وسائل الإعلام وقنوات الاتصال المباشر وغير المباشر، فهي الأبسط والأسهل في الوصول والتأثير لأنها لا تحتاج إلى ثقافة خاصة في عملية التلقي، أو التفاعل معها.

      وقد تكون الصورة بسيطة في دلالاتها وتعبيراتها، ولكنها تحمل الكثير من المضامين الفكرية والدلالات الرمزية، والايحاءات السيميائية التي تؤثر في المتلقي بطريقة عفوية، وتدفعه إلى القبول بها دون تفكير أو مراجعة، لأنها على الأقل حققت له متعة المشاهدة أولاً والإقناع بمحتواها ثانيًا، وهذا ما يحدث في رسومات الكاريكاتير التي تستطيع بذكاء إمتاع القارئ بالرسومات البسيطة المعبرة، والتفاعل مع الفكرة بعد أن تكون الصورة قد استمالته إليها، وقربته من مضمونها.

 

      ومن هنا يأتي هذا البحث الذي يحاول رصد خطاب الصورة من خلال صور الكاريكاتير التي تناولت موضوع جائحة كورونا، واختلفت وسائل التوظيف فيها، وقد رصدت الدراسة ثلاثة أبعاد تم من خلالها توظيف صورة الكورونا في الخطاب الكاركاتيري وهي: البعد التفاعلي، البعد الديني، البعد السياسي.

الكورونا في الخطاب الكاركاتيري:

أولاً: البعد التفاعلي في الصورة الكاركاتيرية:  

   تشكل خطاب الصورة الكاريكاتورية في أكثر من مشهد، وتعددت المساحات التعبيرية التي تناولها رسامو الكاريكاتير، واستطاعوا بوساطتها تقديم أفكارهم ومعالجة الموضوع بشكل تفاعلي، يثير دهشة المتلقي، ويجعله أكثر حضوراً وتفاعلاً مع الصورة التي تقدم له في أبعاد سيميائية تحتوي العديد من الألوان والزوايا والرموز التي تم اختيارها في الصورة بشكل مدروس ومعبر.

   ومن هذه الصور التفاعلية ما قدمه الفنان العجيلي العبيدي في تقديم الدور الكبير الذي يقوم به أطباء العالم في مواجهة هذا الوباء المتفشي.

 

 

 

والصورة تحمل دلالات تعبيرية ربما تعجز الكلمات المكتوبة أو المنطوقة عن إيصالها، والرسام هنا لم يوظف النص المكتوب في خطابه الموجه إلى المتلقي بل يعتمد الصورة بإيحاءاتها السيميائية المعبرة، وهو بذلك يجعل عملية التلقي أكثر تأثيراً وقبولاً، لأن المعنى المراد لا يقدم له في صورة كلمات ربما يسمعها ولا يتفاعل معها، وهنا تأتي المؤثرات البصرية لتجعل المعنى أسهل حضوراً واستقبالاً، لأن المؤثرات البصرية أقوى من المؤثرات السمعية، وهنا تختزل الصورة كثيرا من الرموز والدلالات التي يحتاج إلى التعبير عنها بكثير من الكلمات والجمل والعبارات " إن الخطاب الذي تشكله الصورة المرئية هو خطاب متحرك يتعلق بقدرة العين الباصرة على تحليل مكونات هذا الخطاب وتصور غاياته، لذا فان الوظائف الإنتاجية لهذه الصورة مرتبطة بما تكتسبه العين من مشاهد متوالية بلا توقف، وعليه فان للمدرك الحسي العياني مهمتين:

"المهمة الأولى: تتعلق بتلقي رموز الصورة وإيصالها إلى الدماغ لتفسيرها وإعطاء دلالاتها.

المهمة الثانية: إدراك ما يتناسب من الصور الكثيرة والمتوالية التي تم الاقتناع بمحتواها"([3]).وهنا نجد أنفسنا أمام ثنائية واضحة في تشكيل الصورة، ثنائية تجمع بين شبح كورونا في زاوية من زوايا الصورة، والطبيب الذي يحاول التصدي للجائحة وحماية العالم في الزاوية الأخرى.

والدلالات السيميائية في الزاوية الأولى تكشف عن مشهد الرعب الذي تجسد في الخطوط والألوان والملامح العامة، فصورة الوباء تجسدت في صورة قزم ضخم الرأس عاري الجسد، كشر عن أنيابه الحادة، أما رأسه فمغطى بسهام الشر التي يريد أن يهاجم بها البشر على امتداد الكرة الأرضية، وهو يقف  في موقف الاستنفار والاستعداد للهجوم.

  فيما يبدو في الطرف المقابل الطبيب الذي يواجه الوباء بشجاعة وهدوء، ويدافع عن العالم كله بذراعين مفتوحتين واستعداد تام للمواجهة، وقد لبس اللباس الخاص بالأطباء في الرأس والجسد والقدم، ووضع إلى جانب ذلك كمامة إشارة منه إلى وسائل الحماية المستخدمة وفيها أيضا نوع من أنواع التوجيه والإرشاد.

أما بخصوص سيميائية الألوان في المشهد البصري، نجد الرسام وضع اللون الأخضر في صورة الوباء المتمثل في صورة القزم، وجاء اختيار هذا اللون عن قصد، فقد اختاره لدلالة رمزية تكشف عن حيوية هذا الفيروس ونشاطه فهو ما يزال في بداياته الأولى، لم تجف عروقه بعد، ولم تذبل أوراقه، وهو يستعد بكل قوته لمهاجمة العالم دون تمييز أو مجاملة لأحد.

   ووضع بعد ذلك اللونين الأسود والأحمر في داخل فمه بما يحمل هذان اللونان من دلالة رامزة، فاللون الأسود داخل الفم ترى فيه الحقد والغضب، واللون الأحمر الذي يأتي خلف الأنياب تشم فيه رائحة الموت، والأنياب البيضاء لا تعكس براءة المنظر وإنما تعكس حد السكين التي يحملها بين فكيه ويريد من خلالها أن يلتهم العالم.

  وفي مقابل هذا المشهد البصري المرعب تأتي الصورة الضدية المقابلة، وهي صورة الطبيب الذي يجمع في ملابسه بين اللونين الأبيض والأزرق، وهذان اللونان فيهما إشارة إلى الرمز الإنساني في صورة الطبيب، لأنهما لونان يميزان ملابس الطبيب في أثناء العمل، وإلى جانب هذين اللونين نجد سيميائية أخرى في اختيار اللون الأخضر للقارات التي تظهر في صورة الكرة الأرضية، بما يحمل هذا اللون من إشارة واضحة إلى حالة الأمن والأمان التي يعيشها العالم في هذه الكرة المغلقة التي يحاول الوباء اختراقها، أما البحار والمحيطات التي كنا نتوقع أن تلون باللون الأزرق، فقد فاجأنا الرسام باللون الأصفر وهو اللون نفسه الذي نجده في عين الفيروس، وفي اختيار هذا اللون إيحاء دلالي إلى ما يتطلع إليه الفيروس بإحالة الخضرة التي ينعم بها العالم إلى خريف أصفر جاف يأكل الأخضر واليابس.

  وإلى جانب سيميائية الألوان تتكشف أمامنا سيميائية الحركة، فالفيروس في موضع الاستعداد للانقضاض على العالم، فالصدر منه يتقدم، واليدان إلى الخلف، والقدمان تتحركان نحو الهدف والفم مفتوح، والأنياب بارزة، والتحدي قائم.

  وفي مقابل هذه الحركة، يقف الطبيب موقف الدفاع عن العالم كله، وقد فتح ذراعيه، وكشف عن صدره استعداد للمواجهة، وامتدت مساحة اليدين لتغطي الكرة الأرضية جميعها، ووضع في المشهد قارتي آسيا وأفريقيا وهما موضع اهتمام الرسام الذي ينتمي إلى هذه المساحة المكانية.

التناص الديني والأدبي :

  يبدو أن الرسام استوحى دلالات دينية وأدبية في بعض زوايا الصورة، فصورة رأس الفيروس، وما فيها من قبح تذكرنا بشجرة الزقوم التي شبهت في القرآن الكريم برؤوس الشياطين في قوله تعالى "طلعها كأنه رؤوس الشياطين"([4])

  وفي صورة الفيروس الذي تبدو أسنانه البيضاء في فمه، نجد صورة مضللة تجمع بين التكشير والضحك، وربما يكون الرسام استوحى هذه الصورة من بيت المتنبي:

 

                  إذا رَأيتَ نُيُوبَ اللّيثِ بارِزَةً     فَلا تَظُنَّنَ أَنَّ اللَيثَ يَبْتَسِمُ ([5])

وتركز صور الكاريكاتير التفاعلية بشكل خاص على الدور الإيجابي للأطباء في مواجهة الجائحة وحماية أرواح الناس كما يظهر في صورة الكاريكاتير، وابتعد العبيدي عن اللغة المكتوبة في اللوحة الكاريكاتورية، غير أنه وضع الاسم الإنجليزي للفيروس على الفيروس نفسه للإشارة إلى الأصل غير العربي وأنه صناعة أجنبية لا دخل للعرب بها.

  وضمن الكاريكاتير التفاعلي يقدم العبيدي صورة كاريكاتورية فيها رجل غير مبال وغير ملتزم بقواعد السلامة العامة، يخرج من أنفه رذاذ قاتل  يصيب به رجلاً عجوزاً ينتهي به الحال إلى جوف  الفيروس القاتل الذي يستقبل الضحية بابتسامة عريضة وذراعين مفتوحتين، وهنا نجد مرة  أخرى سيميائية الحركة ولغة الجسد، فالمرض يبدو واضحاً في وجه الرجل وهو ينقل الفيروس عن طريق الرذاذ إلى الرجل العجوز الذي ينظر إلى الرجل المصاب بعين الغضب وعدم الرضا، لأن ما فعله هو عملية قتل حقيقية، أسلمته مباشرة إلى الفيروس القاتل الذي فتح فمه إلى أقصى حد ممكن، ورفع يديه ترحيباً بالضحية، وأصبح جاهزاً لابتلاع الرجل المصاب، ونجده مرة أخرى يؤكد على وضع اسم الفيروس باللغة الإنجليزية  للدلالة نفسها التي ذكرناها سابقا وهو يؤكد ذلك في كل رسوماته التي تناول فيها موضوع الفيروس.

 

  وفي صورة أخرى من صور التفاعل في مواجهة الجائحة، يقدم الرسام صورة صراع  قوي وتحد عنيد بين الطب والجائحة، وتظهر في الصورة الثنائية الضدية بين المرض والطب، ويتسلح كل طرف بما يملك من إمكانات المواجهة والتحدي.

 

وهنا نجد تكرارا للسيميائيات التي برزت في الصورة السابقة، ويكاد المعنى نفسه يتكرر مع إضافات فنية جديدة، فالثنائيات الضدية تشكل المنظر العام للصورة، فالضد الأول يتشكل في صورة الوباء، وهو في حالة استنفار واستعداد للهجوم، بينما يشكل الطبيب ثيمة ضدية مقابلة للفيروس، ومن خلفه سكان أبرياء لا يملكون حيلة ولا قوة سوى الالتزام بوسائل الحماية المتاحة، وانتظار ما يمكن أن يفعله الطبيب لحمايتهم.

وهنا تبدو سيميائية الألوان واضحة، فاللون الذي يتشكل منه الفيروس هو اللون الخضر والدلالة الرمزية هي نفسها التي لاحظناها في الصورة السابقة، فالفيروس في كامل حيويته ونشاطه، واللون الاصفر هو للعينين اللتين تتطلعان إلى خراب العالم وتدميره، والأسنان بيضاء حادة، وداخل الفم سواد قاتل، والرأس قنبلة موقوتة تنتظر لحظة الانفجار والتدمير.

  واتكأ الرسام هنا على عنصر الحركة في تقديم المعنى والإيحاءات التعبيرية، فالفيروس في حالة استعداد، ينظر بغضب إلى الناس خلف الطبيب، وفمه مفتوح، وجسمه مندفع إلى الأمام، ورأسه قنبلة تنتظر لحظة الانفجار، ومشاهد الرعب والخوف تحيط به من كل مكان.

  وفي الثنائية الضدية المقابلة نجد الطبيب في حالة هجوم، مع كل الاحتياطات اللازمة للمواجهة وكأنه أراد أن يقول أن الاندفاع نحو المواجهة يجب أن يكون محسوباً ومدروساً، فو يلبس القفازات في يديه، والكمامة على أنفه وفمه، وسلاح المواجهة وهو الدواء والعقاقير الطبية التي يستمد منها قوته، ويستطيع معها أن يضرب الفيروس ويوجه له الضربة القاضية.

  وهنا يوظف الحركة توظيفاً فنياً، فالضربة التي تأتي من الطبيب تكون على أنف الفيروس، وهنا إشارة إلى محاولة إذلاله والنيل من كبريائه، فالأنف عند العرب هو رمز الشموخ والكبرياء، أما الناس خلف الطبيب فكانوا يراقبون المشهد عن بعد بعيون حذرة وقلوب واجفة، وجمع الرسام الناس في فئات عمرية متفاوتة، رجالا ونساء فكأنهم يمثلون العنصر البشري في الكرة الأرضية جميعاً، فالبعد المكاني والزماني غير محدد بل يمتد إلى ما وراء الصورة.

  والصورة بشكل عام تعكس حدة الصراع بين الخير والشر، والرسام يؤكد في المشهد البصري والحركي حتمية انتصار الخير، فإذا كان الناس يضعون الكمامات على أنوفهم خوفا من الفيروس، فإن الفيروس في المقابل قد جدع أنفه الذي اختفى تماما خلف ضربات الطبيب التي نالت منه ومن سطوته.

ويستمر الصراع بين المرض والطبيب، وفي الصورة الآتية يتسلح الطبيب بالرموز الطبية (لباس الطبيب-الكمامة-القفازات-غطاء الرأس) وفي الضد المقابل يتسلح الفيروس بسهامه ويده التي أحكمت قبضتها على يد الطبيب، ومخالبه الحادة التي التفت حول أصابع الطبيب. إلى جانب ذلك وظف الرسام لغة الجسد التي تغني المتلقي عن لغة الخطاب، فالطبيب ينظر إلى الفيروس بعين حادة، وقد رفع حاجبه، وركز في مهمته كأنه يبحث عن نقاط الضعف في خصمه، وفي المقابل جاءت يد الفيروس من أنفه إشارة إلى استعلائه وعدم مبالاته بالطرف المقابل وهو ينظر إليه بعين نصف مفتوحة، وفم مفتوح وأسنان متشابكة في إشارة واضحة إلى الغيظ والغضب الذي يحمله في داخله على الطبيب الذي يحاول التصدي له.

 

 و يلعب الطبيب دوراً تفاعلياً بارزاً في عملية التوجيه والتصدي للجائحة، ولا يقتصر دوره على مواجهة المرض، وإنما يحاول تثقيف الناس في مواجهة المرض، وهذا ما نجده في صورة الكاريكاتير الآتية:

 

فالطبيب يرسم للناس طريقة الوقاية من الفيروس بطريقة إرشادية تفاعلية فيضع للناس منطقة الأمان، وهي البيت الذي فيه الأب والأم والأطفال وهم يحتضنون الأبوين، والطبيب يغلق باب البيت في إشارة واضحة منه إلى الإرشادات الطبية التي تدعو المواطنين إلى ضرورة التزام البيت كأفضل وسيلة للحماية من الفيروس.

  والصورة الكاريكاتورية تحمل كثيراً من الدلالات الأسلوبية، فالبيت يبدو نظيفاً بالمطلق من الفيروس والأب يحتضن أفراد أسرته ويحافظ عليهم داخل المنزل، والأطفال يحتمون بالأب والأم، والطبيب يحاول إغلاق البيت لحمايتهم، وهو يلتزم بقواعد السلامة العامة خارج المنزل، فيما يبدو الفيروس ينتشر انتشارا واسعا في الخارج، ويحيط بالمنزل من كل الجهات، في إشارة واضحة إلى الخطر الكبير الذي يتهدد الناس في كل مكان.

   وهنا تبدو سيميائية الألوان أيضاً، فأرضية البيت نقية صافية لا توجد فيها شوائب، وتخلو تماماً من آثار الفيروس، والفاصل بين البيت والفيروس خارج البيت هو خط أبيض إشارة إلى منطقة الأمان التي تفصل البيت عن الخطر الخارجي. أما الفيروس فهو ينتشر بكثافة ويملأ المكان بلونه الأخضر في إشارة إلى حالة الاستعداد والحيوية التي يتمتع بها، والطبيب ما زال يحافظ على كمامته وثيابه التي تجمع اللونين الأزرق والأبيض.

ثانياً: البعد الديني في الصورة الكاركاتيرية:

البعد الديني يلامس الوجدان ويشكل رمزاً مائزاً في الخطاب البصري لما له من أثر في استنطاق اللوحة والتأثير في المتلقي من الناحية الدينية، ويعد توظيف البعد الديني في الصورة الكاركاتيرية وسيلة لتقريب الواقع والتأثير على المتلقي من خلال استحواذ العقل والوجدان، فإذا اجتمع الإبداع الفني البصري ممزوجاً بالثيمة الدينية كان أبلغ تعبيراً من اللغة المكتوبة، وأكثر تأثيراً مما يسهل فهم الصورة واستيعاب مقصودها.

يسعى الفنان لتحويل الرمزية الدينية إلى بعد جمالي من خلال توظيف بعض الدلالات بشكل غير مباشر، لما لها من تأثير عند الجمهور المتلقي، وفي الصورة الآتية وظف الفنان البعد الديني من خلال استثمار المثير العقائدي موظفاً موسم الحج الذي أصبح خالياً من الحجيج من خلال استحضار صورة الفيروس مرتدياً زي الحج وقد بدت عليه مشاعر الحزن والألم من خلال دموع الخشوع والتأثر في مفارقة ساخرة لتبادل الأدوار إذ خلا الموسم من الحجاج وعوض هذه الجمع الغفير وجود الفيروس الذي شلّ مجالات الحياة من بينها المجال الديني فالمساجد بلا مصلين.. والحج بلا حجاج خشية أن يتحول إلى بؤرة لانتشار المرض.

ويستخدم الفنان التناص الديني من خلال استخدام عبارة ( لبيك اللهم لبيك) وهي العبارة التي يهتف بها ملايين الحجاج منذ زمن سيدنا إبراهيم حتى يومنا الحالي، موظفاً المؤثرات البصرية والذهنية؛ لتعكس المضمر الدلالي المنشود.

 

  تناول رسامو الكاريكاتير المشهد الوبائي من جوانب عدة، وكان من الطبيعي أن يكون البعد الديني حاضراً في رسوماتهم بما يحمله هذا البعد من أبعاد روحانية ونفسية تنعكس بشكل واضح عل سلوك الناس، وكيفية تعاملهم مع هاته الجائحة، وبطبيعة الحال يشكل المسجد واحدة من أهم الملامح الدينية التي تستدعي الاهتمام، وهنا يأتي دور رسام الكاريكاتير في عمليتي التوجيه والتوعية

 

والصورة هنا تعكس مشهدين أحدهما قبل دخول المسجد، والآخر بعد دخوله، فقبل الدخول توجد حالات محدودة من الإصابة، وبعد الخروج أصبح الجميع مصابا، واللوحة رغم بساطتها إلا أنها تعكس المشهد الديني المتعلق بالصلاة في المسجد،وفي المقابل المشهد الإنسني في ضرورة الحفاظ على أرواح الناس، والابتعاد عن التجمعات بكل أشكالها وتفاصيلها.

إذ يجب توعية المواطن نحو انتشار الفيروس والابتعاد عن العواطف، إذ يرفض البعض فكرة إغلاق المساجد، لتغييب المقصود الديني في فكرهم وعدم تقدير المصلحة العامة، إذ إن حفظ النفس غاية الوجود ولا يجوز تعريضها للخطر مقابل الحفاظ على الشعائر الدينية التي يمكن إيجاد بدائل لها.

والصورة تعكس انزلاق الناس نحو العاطفة دون الاستدلال الصحيح للضوابط الأصولية التي تغلب العقل على العاطفة، من بينها ضورة الحفاظ على ضرورات الحياة الخمس وأهمها الحفاظ على الحياة

واستخدم الفنان التناص الديني " صلوا في بيوتكم" كما ثبت في السنة الصحيحة قول صلوا في رحالكم، والرحل هو مسكن الرجل وما يصطحبه من أثاث أي صلوا في منازلكم لما فيها من حماية ووقاية للمجتمع.

كما أثرت جائحة كورونا على بعض الطقوس الدينية والاجتماعية لا سيما ما يتعلق بشهر رمضان المبارك الذي امتاز بصلاة التراويح وتجمع الأهل، إذ اختفت هذه المظاهر وانحجر الناس في بيوتهم وقد وظف الفنان رمزية الفانوس وما تحمله من دلالات دينية إلى البيت الذي أصبح بديلاً قسرياً للصلاة والزيارات العائلية، وقد استخدم الشاعر عنصر التكرار لهذا الفانوس دلالة على تفشي المرض والتزام الجميع الحجر المنزلي، ثم نجد صورة الفيروس مجسدة بصورة إنسان حزين وهذا يعكس عجز الفيروس على تحقيق مراده بسبب الالتزام بالحجر المنزلي الذي يعد الخيار الأمثل لمواجهة الأزمة.

 

وتتجدد مشاعر الحزن في أكثر من صورة فنية إذ تأثرت العبادات والشعائر الدينية كونها تعتمد على مبدأ الجماعة، وانتقلت الشعائر من المساجد إلى البيوت في إطار الإجراءات المتخذة لمواجهة الفيروس، وأصبحت المساجد خالية من المصلين، وقد وظف الفنان مشاعر الحزن التي انتابت المسلمين بصورة مسجد يبكي حزناً وشوقاً، وقد أصبح مظلماً بائساً ينظر بحسرة إلى البيوت المضيئة التي أصبحت مساجد بديلة، واتخذ الفنان الاتجاهات عنصراً مساهماً في الدلالة الايحائية إذ يتجه المسجد باتجاه البيت بانجذاب نحو المصلين، ويبتعد البيت عن المسجد تنفيذاً لإجراءات الوقاية.

 

ويتابع الفنانون توظيف المشهد الديني في أعمالهم الفنية، وفي الصورة الآتية يتخذ الفنان ثلاثة عناصر لتشكيل صورته ( الطبيب- اللقاح – الكورونا)، وهي عناصر في صميم المشهد الوبائي، ولكن الفنان يضفي عليها صبغة دينية عندما استعان بفكرة مدفع رمضان في مقاربة بين اللقاح والمدفع لتصبح أبلغ تعبيراً وأدق وصفاً مدعماً صورته بالسياق اللغوي من خلال توظيف كلمة ( اضرب) وهي كلمة تتضمن معنى الانتهاء، إذ إن المدفع يوحي بانتهاء وقت الصيام، كما أن اللقاح يوحي بانتهاء وقت المرض.

كما وظف لغة الجسد المتمثلة في رفع الأيدي في مقاربة ضدية بين الطبيب والكورونا، فالطبيب يرفع يداً واحدة مشيرا إلى تحقيق الهدف، أما الكورونا فترفع يديها في دلالة على الاستسلام، أما فضاء النظر وتوظيف لغة العيون فنظرات الطبيب ثاقبة وموجهة بعزم وإصرار نحو الفيروس، لكن الفيروس لا ينظر إليه بل يتبادل النظرات مع المدفع في صورة تجسد مظاهر الهلع والخوف، ولغة الجسد هنا تعبر عن مكنون شعوري، وجاءت بالتوافق مع اللغة المكتوبة لتؤكد دلالات الصورة وتستكمل فكرتها في خطاب مبطن بعيد عن المباشرة.

 

ثالثاً: البعد السياسي في الصورة الكاركاتيرية:

إن البعد السياسي في الصورة الكاركاتيرية يمتاز بالواقعية فهو مستمد من مفردات الحياة، إذ أصبحت السياسة جزءاً من الحياة اليومية، وفي ظل انتشار جائحة كورونا في العالم وانتشار رائحة الموت في كل مكان، سعى المبدع إلى توظيف طاقاته الإبداعية في الجمع بين السياسة والكورونا، إذ تم توظيف ثيمة الكورونا في خدمة البعد السياسي لتحمل بعداً سياسياً وفكرياً يختزل دلالة مركزية تتمحور في إعادة صياغة الواقع من خلال الصورة حيث عجزت الكلمات والخطابات من وصف الواقع وإنصافه.

 

 وهنا نجد المبدع في هذه الصورة يعبر عن رؤيته الفنية الخاصة في تجسيد خطر الاستيطان الصهيوني من خلال فيروس كورونا موظفاً عنصر اللون في صياغة فكرته، إذ استخدم اللون الأزرق والأبيض في تلوين الفيروس وهو علم الاحتلال الإسرائيلي ليضفي عليه صبغة شرعية، إن توظيف  الفيروس في الصورة يعكس حجم الانتشار فهو يجتاح الأراضي الفلسطينية ويقضي عليها كعمل مثيل لما يقوم به الفيروس، إذ نجد آثار الدمار تحيط بالفيروس دلالة على الهلاك والموت، بينما تحافظ القرى الفلسطينية التي لم تصلها جائحة الاستيطان على جمال اللون بطبيعة خضراء وسلام ديني يتمثل بتجانس المسجد بالقرب من الكنيسة في ظل سلام بيئي وديني واجتماعي، ويتحكم المبدع في حجم الصورة من حيث التباين النسبي بين حجم الاستيطان والاستقرار في مفارقة مؤسفة إذ تتصدر جائحة الاستيطان الصورة بحجم مضاعف لتعكس المستوى الكمي لنهب الأراضي الفلسطينية، إن التقنيات الفنية في الصورة اختزلت فكرة سياسية في رسالة موجهة للمتلقي في محاولة لتنبيه المجتمع الدولي للقيام بواجبه.

 

وتم التعبير عن معاناة الأسرى الفلسطينيين في ظل الجائحة من خلال تجسيد الإهمال الطبي والرعاية وسبل الوقاية عن طريق قنبلة كورونية يفجرها السجان الغاشم ليزيد من عمق القهر والظلم الذي يتعرض له الأسير، فالاحتلال لا يكتفي بالإجراءات القمعية داخل المعتقل بل يستغل جائحة كورونا للتضييق على الأسرى، موظفاً لغة الجسد في النظر بحقد إلى السجن لمتابعة مراحل التعذيب والتدمير، وفي ظل الدمار النفسي والجسدي نلمح يد الأسير قابعة خلف القضبان في علامة سيميائية تعكس ديمومة الصمود والصبر كأن لسان حالهم ينشد قول الشاعر: ولا بد لليل أن ينجلي   ولا بد للقيد ان ينكسر. ([6]).

 

 

واستعان بعض الفنانين بالتناص التاريخي، إذ إن استحضار التاريخ واستلهام معطايته الدلالية " ينتج تمازجاً ويخلق تداخلاً بين الحركة الزمنية حيث ينسكب الماضي بكل إشاراته وتحفزاته وأحداثه على الحاضر بكل ما له من طزاجة اللحظة الحاضرة فيما يشبه تواكباً تاريخياً يومئ الحاضر إلى الماضي." ([7])

 

يستحضر الفنان قصة طارق بن زياد موظفاً التناص التاريخي من خلال مقولته الشهيرة " البحر من ورائكم والعدو من أمامكم" عندما أراد العبور إلى الضفة الأخرى من الشاطئ الأسباني، بعبارة " كورونا وراءكم ..والفساد أمامكم، إن استحضار شخصية طارق بن زياد يجمع بين مشهدين متناقضين إذ إن طارق بن زياد يحث قومه على الصبر والصمود لمواصلة الزحف، أما في هذه الصورة الكاركاتيرية فإنها تحول الدال الرمزي من الصمود إلى الاستسلام، وتستحضر الصورة ثلاثة عناصر: السياسي، الشعب، الكورونا، ويستحضر الفنان شخصية السياسي الذي يمثل الفساد متوارياً عنه بالسبحة التي تمثل الجانب الديني، فهو يتخذ من الخطابات الكاذبة والشعارات المزيفة مزيجاً لإخفاء فساده، كما نجده في مكان أعلى من الشعب فاغراً فاه لكثرة الحديث وقلة العمل، والفارق بين المشهدين كبير واستحضار الحدث على سبيل الاستهزاء لا المشابهة، كما نجد الشعب بكافة شرائحه يعاني الخوف والهلع يستمع ولا يناقش، ورغم ما يعانيه من الفساد والقمع تأتي الكورونا لتزيد المأساة وقد جسدها الفنان بصورة إنسان غاضب يحيط بالشعب ويسلط نقمه عليهم، وبذلك تكون النتيجة أن لا مفر من الأزمات، فالشعب يقع بين مطرقة الفساد وسندان الكورونا، في إشارة خفية لقبول الفساد والتأقلم معه.

 

 

 

 

([1]) العبد، محمد: الصورة والثقافة والايصال، مجلة فصول العدد 62، سنة 2003، ص 133.

([2]) شعر الله، محمد سالم: التواصل الثقافي للصورة المرئية، ضمن كتاب قضايا النقد الأدبي بين النظرية والتطبيق عالم الكتب الحديثة، الأردن 2009، ص 33.

([3])شعر الله، محمد سالم: التواصل الثقافي للصورة المرئية، ضمن كتاب قضايا النقد الأدبي بين النظرية والتطبيق عالم الكتب الحديثة، الأردن 2009، ص 33.

([4]) سورة الصافات، الآية 65.

([5]) ديوان المتنبي، دار بيروت للطباعة والنشر، بيروت، 1983، ص332.

([6]) ديوان أبي القاسم الشابي، قدم له وشرحه الأستاذ احمد حسن بسج، دار الكتب العلمية، بيروت، 2005، ص70.

([7]) انظر: رجاء عيد، لغة الشعر العربي المعاصر- قراءة في الشعر العربي المعاصر، دار منشأة المعارف، الاسكندرية، 1985، ص 201.

المجلة
العنوان
مؤتمر الاعلام العربي والتعاطي مع جائحة كورونا
الناشر
المؤتمر
بلد الناشر
العراق
Indexing
Thomson Reuters
معامل التأثير
-1,0
نوع المنشور
مطبوع فقط
المجلد
1
السنة
2021
الصفحات
20